أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عَشِقَتْهُ ميتاً... مزن مرشد*

أيقنت أنه الحب الوحيد الذي غزاها، أدركت أن في اسمه حياتها....

حتى بعد موته احتفظ بسحره.

عشيقاته كلهن بقين على ذكراه، وأصدقاؤه أغرقوه بالمرثيات والقصائد والمقالات.

 أما هي تلك التي لم تعرفه حياً أبداً، فوقعت في غرامه منذ أن سمعت نبأ مقتله بحادثةٍ فاجعةٍ صعقت كل من عرفه. كان لاسمهِ وقعٌ خاصٌ على مسامعها، اسمه اخترق روحها كسهم من نار، لم تعد تدري ماذا تفعل، تحرقها نيران الوله، تتتبّع برقيات تعازيه، تغار من دموع الأصدقاء، ومن مرثيات الأقرباء، وترثي لحالها عندما تتصفح ألبوم صوره.

كان حباً لم تشهده من قبل، امتلكها، غُرِسَ في قلبها مثل ناب ذئب لم تستطع استئصاله.

 تابعت بشوقٍ، وحسرةٍ، وحزنٍ، وشغف، كل كلمة كتبت عنه، وكل حرف نشر عنه، واحتفظت بكل صورهِ، حتى تلك التي جمعتْه مع أصدقائه. 

كانت تحدق بالصور تتأمل بوجوه النساء الكثيرات، والأصدقاء الكُثر، تتأمل في تفاصيل وجوههن، في بريق عيونهن في شعرهن، وتفاصيل أجسادهن، تغرق لساعاتٍ متأملةً كل الوجوه، محاولةً أن تصل إلى لمحةٍ، نظرةٍ، تشي بعلاقةٍ ما مع إحداهن. تغار عليه ميتاً، يا لحظها البائس.

 تترك جهازها المحمول وتدخل إلى غرفتها.

 أمام مرآتها الكبيرة، تتعرى.. تُسدِل شعرها الأشقر على كتفيها، تنظر بحقد إلى جسدها النحيل، وتقارنه بأجساد تلك النساء التي حفظت تفاصيل أجسادهن عن ظهر قلب.

تمدّ يدها للأعلى متحسّسةً قمة رأسها، سادلةً يدها ببطءٍ شديدٍ على شعرها حتى آخر خصلة، مكملة مشوار يدها إلى صدرها، إلى خصرها، ثمّ فخذها، وتنحني حتى تلمس أصابع قدميها. تقف أمام المرآة محدقةً بجسدها، بوجهها، بتفاصيل أنوثتها، متسائلةً بحقد أفعى، وشوق أنثى، وإيمان كاهن: لو عرفني هل كان سيحبّني؟؟ خالت نفسها مجنونةً، كيف لها أن تعشق رجلاً مات؟ كيف تغرم برجلٍ ميتٍ، بهذا الشكل!؟

 تلبس ثيابها، تدخل مطبخها الصغير، تغلي إبريقاً من القهوة يكفي قبيلةً، ويشربها وحدها، مع سجائر لم تعدْ تعدّها منذ أن عَشِقته.

 امتلأ بيتها بصورهِ ولوحاتهِ، ومشاريعَ لوحاته، واكتظت رفوف مكتبتها بكل الصحف والمجلات التي كتبت عنه، منذ أن بدأ وحتى مماته.

 طبعت كل حرف نُشر عنه في الفضاء الإلكتروني.

 وجلست وحيده تتأمّل عينيه الغائرتين، لحيته الخفيفة الموشاة بالشيب، شعره الطويل، شفتيه المكتنزتين، أغمضت عينيها وحلمت بقبلته.

 أيقنت أنه الحب الوحيد الذي غزاها، أدركت أن في اسمه حياتها.

 نون نسوتها اختُزِلتْ في نظرته الغائرة، في زرقةِ عينيه، في حمرةٍ غريبةٍ لبشرته السمراء.

من الصورة المعلقةِ على الجدار المقابل لسريرها، أدركت أن حبه وُلِد معها يوم ولدت، وسيبقى معها بعد الممات، لم تعرفه في هذه الحياة لكنها عرفته منذ ألف عام.

في سريرها، وبثوبها الأزرق الشفاف الذي تحب، احتضنت صورةً أخرى له، صورةً كبيرةً ما تزال تنام بجانبها منذ أن وقعت في سحره، نظرت في عينيه، عبرها الحزن كنهر، وانفطر قلبها للمرة الألف، كما في كل ليلة.

 نظرت في فراغ الوقت، في فراغ الموت، في فراغ الحياة.. تلمست صدرها، شعرت بالصدمة، فجوةٌ كبيرةٌ أيسر الصدر .

فجوةٌ كبيرةٌ احتلت مكان القلب، أدخلت يدها فيها لتتأكد أنها لا تحلم، عبرت يدها الفراغ المتروك كثقبٍ في جدار، تكورت على جسدها مشدوهة من هول صدمتها، من أين أتت هذه الفجوة وكيف؟ نظرت حولها لا صورة له في حضنها، لا مكتبة في منزلها، لا قهوة ولا سجائر، لا معالم للمكان. تذكّرتْ... 

هي من ماتت، وهو ما يزال يعيش هناك.

*من كتاب "زمان الوصل"
(195)    هل أعجبتك المقالة (206)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي