استمر برنامجي "ضوء في آخر النفق" على شاشة الفضائية السورية لمدة ثلاث سنوات، كان محور البرنامج هو اللقاء مع نساء انتصرن على ظروفهن، نساءُ شهدن السقوط والألم، أو المرض، أو الفقر أو الظروف.
نساءٌ قهرتهن الحياة لكنها لم تكسرهن، تغلبن على ظروفهن الصعبة، واستطعن قهرها، وتحقيق الإنجاز.
نجحن في الحياة..سواء إن تغلبن على المرض أو قهرن الفقر.. أو تغلبن على الأمية وحصلن على شهادات عالية بعد انقطاع..أو استطعن النهوض بعائلاتهن وأطفالهن، فبنين أسراً مترابطة ومحبة محصنة بالعلم ونجاح الأبناء.
خلال البرنامج التقيت بأكثر من مائة امرأة سورية من مختلف أنحاء سوريا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ومن مختلف الانتماءات اولفئات الاجتماعية.
ضيفاتي كن متميزات دائماً، لكنني لم أستطع أن أتذكرهن كلهن، فبعضهن أصبحن صديقات هن أو بناتهن، وبعضهن محي من ذاكرتي نهائيا..وحدها أم فاضل التي لم أستطع أن أنساها يوما..وحدها أم فاضل التي لا أستطيع أن أتذكر كلمة من كلماتها وإلا وتدمع عيناي لعظمة هذه المرأة واختلافها.. لم تكن طبيبة ولا مهندسة ولا سيدة مجتمع...كانت امرأة مجبولة من طيب وأصالة كانت امرأة معجونة بالحب.
قصة أم فاضل قد لا تختلف كثيراً في تفاصيلها عن قصص الكثير من نسائنا القرويات، فهي المرأة التي تقف إلى جانب زوجها في كل شيء، تحمل معه حمل الحقل والعمل الزراعي الصعب، إضافة لتحملها مسؤولية بيتها وأولادها الكُثر وحدها، ويبقى الزوج سيد المنزل وسيد الحقوق، وهي التابعة التي لا حول لها ولا قوة سوى أن تكون المرأة التي تصون البيت والزوج والأطفال والأرزاق.
ثلاثة عشر عاماً من زواجها قضتها أم فاضل بالتعب والتربية والبناء، فجاءتها المكافأة من شريك العمر، وعمود المنزل وأب الأولاد، جاءتها المكافأة التي لم تتخيلها يوماً، عندما دخل عليها الزوج بزوجة جديدة، أكثر شباباً، لتعيش معها في بيت واحد.
وبعد عقد ونيف رحل الرجل، وترك الأولاد والزوجة الجديدة وأولادها، والحقل، والديون، برقبة أم فاضل، 17 ولداً لأم فاضل والزوجة الجديدة، باتوا جميعاً تحت مسؤوليتها، وهنا كان المنعطف في حياتها والذي غير كل شيء.
هنا تحولت أم فاضل إلى قلعة حمت الجميع، نسيت نفسها وغرقت بالعمل المجد لتربي الجميع، وتحتضن الجميع حتى ضرتها، فعاملتها كأخت لها واحتوتها واعتنت بها وبأطفالها كما لو كانت والدتهم.
عانت الفقر، وعانت العوز، لكنها أبداً لم تُهزم، حرمت نفسها من كل شيء، ومن أبسط الأشياء في سبيل الجميع، فكانت الأم والأب والسند والحضن الدافئ والحنان الذي لا ينضب.
أنشأت أم فاضل أسرة أكثر من نموذجية فجميع أبنائها حازوا على شهادات عليا فخرّجت الطبيب والمهندسين والأساتذة، أحد عشر طفلاً تركهم والدهم لتجعل منهم أم فاضل مثلاً يحتذى بالعلم والأخلاق والاحترام.
لا يمكنني أن أنسى كيف وصفت لي سنوات دراسة أبنائها في جامعة حلب، وكيف قاست الجوع كي تجمع لهم مصروفهم هناك، كيف كانت تخبئ البيض من أجل أن تبيعه وتأكل البصل المسلوق.
تنتظر خبر النجاح أو الترفع أو التخرج لتغسل بدموع الفرح كل آلام عظامها وبردها، كل ما عانته خلال أعوام فقد كانت تعرف تماماً أن تعبها، ثمناً بخساً لبناء مستقبل أبنائها.
يوم تصوير واحد كان كفيلاً لتسكن هذه المرأة روحي ولا تفارقها، كان كفيلاً لتحفر كلماتها وتجربتها عميقاً في نفسي.
لا تكفي هذه السطور لتحكي تفاصيل حياة عاشتها هذه المرأة السورية المعطاءة، لكنها محاولة لإعطائها قليلاً مما تستحق.
رحلت أم فاضل، ولم يتسنّ لي أن أعود إلى ذلك البيت الطيني الدافئ الذي استقبلتني فيه، لأقول لها بأنها الأم التي يتمناها كلنا، لأقول لها بأن النساء المغبونات هن نسغ الحياة وهن أساسها، فكثيرات مثل أم فاضل، كثيراتٌ هن النساء المجهولات في مجتمعنا، كثيرات هن الجنديات المجهولات خلف الكثير من قصص النجاح والتميز.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية