يبدو حال أغلبنا -نحن السوريين- غارق في هذا التيه السياسي والإنساني الذي وصلنا إليه، ووسط مصالح متنافرة ومتعارضة بين القوى التي تحك على الأرض والأتباع، وهؤلاء ـ أي الأتباع ـ رهنوا مواقفهم بهذه المصالح، وكذلك رهنوا مصائرهم.
آخر مآسينا كان الإعلان عن تأسيس اللجنة الدستورية والتي لا تمثل سوى من تضمهم، وتمثل انتماءاتهم وولااءاتهم، وبالتالي كانت مواقف النخب السورية في أغلبها لا تسر الخاطر، ولا تستبشر قادماً، وأما الشعب فهو غارق في همومه وشتاته، وسبل مواجهة الواقع المأساوي الذي وصلت إليه أحوال الناس من فقر وموت وانتظار المجهول الكبير.
على الصعيد العربي الرسمي فقد قطع السوريون أشواطاً من اليأس من كل هؤلاء الذين باتوا يرون في المأساة السورية مؤامرة كونية أو عصابة إرهابية شعبية، وأما في أفضل مواقفهم، فهم إما صامتون أو عاجزون أو دون موقف، وبعضهم كما يقول المثل (يضع على رأسه خيمة) ربما في غدٍ تأتي عليه المقادير بما هو أسوأ.
وسط هذه العزلة السوداء تأتي الهبة العراقية في الأيام الأخيرة كتعبير مغاير لمسار اليأس، وكأنما عاد (تموز والسمندل) من جديد إلى أرض الرافدين، ونهضت الحياة في بلد كان يعتقد معظمنا أنه ارتهن نهائياً إلى الملالي، وأن قيامته لن تقوم أبداً.
خرج العراقيون إلى الشارع على اختلاف مذاهبهم ليصرخوا في وجه الجوع الكافر، والارتهان لراية الانتقام السوداء، وهذه المرة لم يبق الجنوب وحده في الشارع، وكانت بغداد في توقيت شعبي لا يحدث عادة إلا عندما تتشابه المصائر والأوجاع.
منذ الأمس سقط قتلى وعشرات الجرحى، واعتقل المئات، وتدخلت قوات الجيش والميليشيات التي أحست الخوف لأول مرة على نفوذ سيدها في (قم)، والتقارير القادمة من العراق - الذي أغلقت فيه شبكة الإنترنت والاتصال الخلوي- تتحدث عن قمع شديد، يقابله بأس شديد من الشعب في وجوب تحقيق المطالب وأولها خروج الإيراني إلى أرضه، ورفع يده عن رؤوس الحاكمين ولقمة الناس.
يأتي هذا الفعل العراقي في وقت ترى إيران في بلاد الرافدين منصة لتهديد أمريكا والآخرين حولها، وهذا ما جاءت به التصريحات الإيرانية الأخيرة التي تبحث عن مواجهة تبدأ بها خارج حدودها، وفي وقت كانت ترتفع فيه الأصوات التي ارتهنت لإرادة الإيراني في المواجهة أيضاً..لكنها المفاجاة تحدث.
لقد فعلها العراقيون في قمة يأسنا، ويجب أن ندعوا لها بالنجاح والاستمرار لأنها ربما تخرجنا من هذا البؤس المصيري، وتعيد لنا نحن الذين لم نعد نصدق أحداً، أو نعوّل على أحد، وباتت الفرقة وشعارات التخوين فيما بيننا هي القاسم الوحيد الذي يدور في فضاء ثرثراتنا الطويلة.
ما يحصل في العراق اليوم هو أمر واحد..توقيت الأنظمة والعملاء هو ما يخدم مصالحها ومصالح من يشغلها، وأما توقيت الشعوب فهو دائماً لحظة إحساس جمعي بالصراخ والتعبير عن ضرورة تغيير الوقائع وفق بوصلة الحياة..طوبى للعراق أملاً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية