دعونا نعترف ودون أية حساسيات، لا وجود لدولة سوريّة قبل اتفاقية سايكس بيكو، فقد كنا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم تعش سوريا حالة الدولة الحقيقية إلا في فترة صغيرة من حياتها خلال منتصف خمسينات القرن المنصرم.
حاولت النخب السياسية آنذاك، أن تنتج دولة قانون تساوي وتعادل بين جميع مكونات الشعب، لكن ثورة البعث لم تدع مجالاً لاستكمال المشروع.
طيلة العقود الماضية عشنا في مجتمع ما قبل الدولة، فكان عرف القبيلة أهم من القانون، ومتنفذو الحكم أهم من القانون، والقائمون على الدولة كلهم فوق القانون، ولم تشهد سوريا الناشئة حتى اليوم أي حياة سياسية حقيقية أو تقدم يذكر في مجال التنمية، فصنع القائمون عليها تطوراً حضارياً عمرانياً لا أكثر، وتراجعت كل المعطيات التي من شأنها أن تحقق نمواً اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، وفُرز المجتمع على أساس الانتماء الطائفي والحزبي، مع مراعاة بعض الشخصيات التي كانت تشكل رموزاً بالنسبة لقوميات معينة أو طوائف.
في ظل كل ما ذكر، لم نستطع ولم تسطتع الدولة أن تشكل هوية سورية تميز مواطنيها، تشعرهم بالانتماء، ولعل من أهم الأزمات التي تظهر جلية على السطح اليوم، هي أزمة الهوية.
في فرنسا مثلاً عيّن منير محجوبي وزيراً في حكومة الرئيس ماكرون، وقبله كانت نجاة بلقاسم وزيرة للتعليم، ومريم الخمري وزيرة للعمل والتي تعتبر من أهم الوزارات في البلاد.
وانتُخب أحمد بوطالب عمدة لمدينة روتردام العاصمة الاقتصادية لهولندا، وغيرهم كثر من أصول عربية وغير عربية، ومسلمة، وصلوا إلى مناصب سياسية مرموقة في أوطانهم الجديدة، ولم نسمع أي من المواطنين الأصليين في تلك الدول نعتهم باللاجئين، أو المهاجرين، أو اعترض على وصولهم لمناصبهم بسبب أصولهم، أو لمح مجرد تلميح بأنهم أغراب عن البلاد ولا ينتمون إليها، فجنسية البلد هي انتماءها ولا شي آخر.
هنا غلبت الهوية الوطنية في دول المواطنة والقانون على الانتماء الفردي ولم تلغيه.
فالتنوع العرقي والقومي الذي أغنى دول العالم الأول، كان مدعاة تفرقة وحروب عندنا، وصار انتماء الهوية مقتلة، وهذا ما تطرق له أمين معلوف بداية تسعينات القرن المنصرم في كتابه الشهير "الهويات القاتلة" لتصبح هوياتنا الصغيرة مقتلة الانتماء ومقتلة الوطن وعائقاً أمام تشييد دول تحترم مواطنيها وتحافظ على هوياتهم المتباينة.
عملت الأنظمة العربية منذ الاستقلال على غرس التفرقة وزرع سبل الشقاق بين أبناء المجتمع فلم تنجُ فئةً واحدة من النسيج السوري من الاضطهاد، والتهميش، ومحاولة طمس الهويات والتراث وإن يكن بأساليب مختلة.
وامتثلنا لتفرقة أنظمتنا فحملنا العداء لبعضنا البعض، نحن أنفسنا، ننصهر اليوم في بلدان لجوئنا، متماهين مع القوانين، لا مشكلة لدينا مع الآخر، نقبل بعضنا هنا، بكل الود، ونتقاتل هناك بكل ما نحمله من غل تجاه بعضنا البعض.
مظلوميات لا تنتهي طالت الجميع، حملناها بإرادتنا ونقلناها لأطفالنا معتقدين أننا نخلص لقضايانا، ففقد الوطن فرصة الوصول إلى السلم الأهلي المنشود، على الأقل خلال المدى المنظور، فالجيل القادم لن يكون جيلاً منزهاً عن ضغائننا، والوطن ليس مجرد أرض نتواجد فيها منذ قرنٍ أو ألف عام، سنسمع كثيراً أصواتاً تنادي بالانفصال، وأخرى تنشد الاستقلال عن سوريا الحالية، ولا ننكر حق أي مكون سوري بطموحه المشروع ليحمي هويته، ويأخذ كامل حقوقه، وفي الوقت نفسه نرفض قيام دولة اللون الواحد، أو المذهب الواحد، فالحلول موجودة أمام سوريا القادمة وتنفيذها متاح إن أردنا ذلك، فما ضر ألمانيا أنها اتحادية ولا ضر سويسرا بأنها فيدرالية ولن يضر سوريا الغد أن تكون نظاماً لا مركزياً أو إدارياً أو أي شكلٍ يضمن حقوق الجميع ويساوي بين المواطنين، وسأحاول في المقال المقبل أن أقدم تصورات لأشكال الدولة المتاحة ومزاياها، فسوريا تستحق أن تكون مثل أرقى الدول، فلا يُزعج الفرنسيين أو الألمان أو الإيطاليين أو أي شعب هنا، أن ترفع كل مقاطعة علماً خاصاً بها إلى جانب علم الدولة، ولا أن تجاهر بأعيادها الخاصة ولباسها التراثي الخاص، وأن تعلم أطفالها قصص تراث المناطق المختلفة الشعبي، وأحياناً لغة محلية خاصة أيضاً، مع الحفاظ على الانتماء للدولة، التي منحت مواطنيها جميعهم نفس الرعاية والأمان والحقوق الكاملة بغض النظر عن أي انتماء آخر ينتمونه.
*من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية