قرابة عقد من الكتابة عن الظلم والموت والفقراء، والنواح على الوطن المذبوح بأيدي أبنائه، وانتصارات هنا وهزائم هناك، ومن فتح مبين إلى معركة المعارك، وتصريحات متناثرة في هواء مسموم برائحة الغاز عن مسؤولية القتل وإثم القتيل.
من لحظة إطلاق الرصاصة الأولى، واستقرارها في أول رأس مواطن صارخ إلى سقوط أول قذيفة أكلت أشلاء عائلة لا ذنب لها سوى أنها كانت هنا، وأن ورقتها كما يقال سقطت من شجرة العمر، وأول غارة اقتلعت حياً كان يعج بالموتى المفترضين.
سنوات التهجير استنفذت كل حكايات الهروب الإنساني، واستدعت كل قصص الموت في أبشع صوره غرقاً تارة، وجوعاً وقهراً في مرات اخرى.
صارلنا في هذا العالم أيقونات في الشهادة والظلم والقهر، ومن أكلوا أوراق الزيتون في الغوطة الشرقية ومعضمية الشام استدعوا ذاكرة الجوعى في عصر أوروبا المنحط حيث أكل الفرنسيون الفئران، وانتبهنا بعدها إلى أن قهرنا وعذاباتنا كانت تفوق بكثير تلك الصور بالأبيض والأسود عن مذابح الغرب في أيام صراعاته الدموية.
حلّلنا و فندنا آراء العالم المتحضر في نجدته لنا وتخاذله، ومع كل موت جماعي كنا نستصرخ الضمائر التي لا تتأخر في لهفتها الصوتية، وجربنّا أن نجمع العالم حول دمائنا ونجحنا، وأن نفضحه ونجحنا كذلك، وفقط ليس لأن أصواتنا تصل بل لأن الدماء أغرقت كل كتاباتنا البائسة وتحلياتنا الأخاذة.
اقتتلنا وشتمنا بعضنا، وهاهنا في نفس المقام والمنبر تحدثنا عن أبناء جلدتنا وهي يضحكون فوق بيوتنا الخربة، وووصلنا في الشتيمة إلى أن نلعن أبناء الدم الواحد والصوت الواحد، واكتشفنا أن الخونة من كل الجهات يحيطون بما بقي منا على قيد الحياة، وأن من باعوا دمهم في لحظة كانوا إخوة الدم فقط من أجل حساب بنكي هناك أو بيت في أرض غريبة أو شراء لجوء وجنسية جديدة.
عقد من أعمارنا في صراع لن ينتهي بوطن كنا نريده آمناً وسالماً، ووصلنا إلى الرضا بهيمنات الحلفاء، وأسميناهم وفق أهوائنا الجديدة، هم إخوة وأصدقاء، ممانعون معنا، واشتراكيون، وأنصار، وحتى شذاذ الآفاق وجدنا لهم مبررات قتلنا واستحكام قرارنا.
بالأمس اختار لنا الحلفاء والضامنون أسماء من يقررون لنا شكل البلاد من أعلى، واتفقوا أخيراً على قائمة السوريين الذين سيضعون لنا دستورنا الجديد كخيار سلمي بعد عشرات الألوف من القتلى، وملايين المهجرين، وأطنان الحبر المسال على وصف حالنا الشتات.
عقد من الدم لم نتعلم منه جملة سياسية واحدة، ولم نخلص إلى توافقات تليق حتى بالأعداء التاريخيين، ولا حتى بارقة أمل في توافق وطني نصنعه بأيدينا، وإنما ننتظر كعاتنا أن يرسم لنا العالم حدود خلاصنا المؤقت الذي سينفجر يوماً ما من جديد..أليس هو من وزعنا ذات يوم إلى سوري ولبناني وفلسطيني، واليوم سيكتب لنا تاريخاً جديداً كعلويين وسنة وعرب وأكراد ودروز و..كبشر يعيشون على حدود البندقية والثأر.
عقد من الكتابة يجب علينا أن لا ننساه لكن أن نتعلم منه أن نعي تدوير لغتنا لنعيش دون استلاب، وبالضبط أولئك الذين يمسكون الآن أقلامهم لكتابة كلمة جديدة في تاريخ هذا الوطن.
تدوير الكتابة.. قبل سقوط أخير ومرثية جديدة عن الوطن*

*عبد الرزاق دياب - من "كتاب زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية