صدق أو لاتصدق.. في بلد محكوم ببسطار العسكر وعصا المخابرات في كل مناحيه ومفاصله، وفي بلد على الجميع (الجميع) أن يطيع وفي أحسن الأحوال أن "ينفذ ثم يعترض".. في "سوريا الأسد" هذه تم "اجتراح" سابقة في تاريخ البلد وتاريخ الفن والسينما السورية، بل وربما في تاريخ السينما العالمية كلها.
"السابقة" تمثلت في "فتح باب النقاش" وإبداء الآراء بكل حرية حول فيلم "دم النخل"، وصولا إلى تعديله وإصدار "نسخة" منقحة منه، تكون جاهزة للغرض "بصيغته الجماهيرية"، ومنسجمة مع قيمة وقداسة كل تلك التضحيات".
"دم النخل" الذي حضره بشار وزوجته شخصيا في دار الأوبرا في نفس موعد ميلاد بشار (11 أيلول)، والذي "طنطنت" له وسائل إعلام النظام بوصفه اختراقا فنيا يجسد معاناة السوريين من الإرهاب، هو فيلم أخرجه "نجدت أنزور"، صاحب التاريخ التشبيحي الطويل للنظام، ومخرج مسلسلات "الفانتازيا" ونائب رئيس "مجلس الشعب".
وفي هذا الصدد، أصدر "أنزور" بيانا مشتركا مع "المؤسسة العامة للسينما" التابعة للنظام قبل ساعات، لم يشيرا فيه إلى السبب الحقيقي لتوقف عرض "دم النخل"، واكتفيا بالقول: "لأننا حريصون كل الحرص على أن تصل الرسالة الوطنية بشكلها الصحيح لكل شرائح مجتمعنا السوري المنوّع والمتكاتف بكل أطيافه وخاصةً لأهلنا في كل المحافظات التي قدّمت أغلى ما تملك في سبيل عزة الوطن ورفعته، فقد ارتأينا تأجيل العروض الجماهيرية للفيلم حتى يتسنى لنا دمج الآراء التي جمعناها ليخرج الفيلم بصيغته الجاهزة للعروض الجماهيرية، منسجماً مع قيمة وقداسة كل تلك التضحيات".
ولم ينس البيان تقديم الاعتذار من "من ينتظرون مشاهدة الفيلم بلهفة"، معقبا: "إن واجبنا الفني والوطني يحتّم علينا الاستماع لآراء كافة أبناء المجتمع السوري والأخذ بها، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريتنا الحبيبة ووجود الكثير ممن يتربصون بكل عمل وطني وبكل نجاح وبكل فرح كالفرح العظيم الذي عشناه عندما كرّمَنا السيد رئيس الجمهورية العربية السورية سيادة الدكتور بشار الأسد وعائلته بحضور هذا العرض وأغنانا بملاحظاته حوله".
وفي عبارة تمثل قمة النفاق لدى "أنزور" الذي يدعي تمثيل تيار الفن المنفتح وغير القابل للمساومة ولا للضغوط، ختم البيان متزلفا إلى من ساءهم فيلم "أنزور"، واعدا إياهم بـ"إجراء المراجعة الكاملة لنقدم لكم عملا فنيا تفتخرون به"، وهذه أيضا سابقة فنية في بلاد الأسد، حيث يتم تنقيح الفيلم ليس من أجل جعله بالفعل عملا فنيا حقيقيا، وليس من أجل تنقيته من الكذب والدعاية السوداء، وليس من أجل أن يكون موافقا لمواثيق "الشرف" المهنية، بل لأجل أن يكون مصدر "فخر" للجمهور!
وفضلا عن التعمية والتدليس الواضحين في البيان، والذي يتحدث عن ضرورة "الاستماع لكل الآراء" بشأن فيلم، بينما كان صاحب الفيلم نفسه "أنزور" وفي كل حين داعية لإبادة كل من عارض جرائم النظام وثار عليه... فضلا عن هذا فقد تضمن البيان كذبة من العيار الثقيل حين ادعى أن تأجيل عرض "دم النخل" إنما جاء نتيجة "الملاحظات الغنية" التي قدمها بشار حول الفيلم، والصحيح والثابت أن إيقاف عرض الفيلم جاء بعد موجة استياء واسعة عمت محافظة السويداء، جنوبا، بعدما تناهى إلى أسماع أهاليها أن "دم النخل" يسيء لهم ويظهرهم بمظهر الجبناء في مواجهة تنظيم "الدولة"، ويحقرهم ويخونهم لتجنبهم الانخراط الجدي مع النظام.
وقد انطلقت موجة الاستياء هذه بعد يومين من عرض الفيلم، ريثما وصلت أخباره ومضمونه للسويداء، وعليه تم إصدار بيان الاعتذار والتأجيل فورا، ولو كان الأمر متعلقا بملحوظات بشار كما يدعي "أنزور" لتم إصدار البيان يومها مباشرة.
اللافت أن الحانقين من أهل السويداء لم يكتفوا بمهاجمة فيلم "دم النخل" ومخرجه، بل صبوا أيضا جام شتائمهم على كاتبة سيناريو الفيلم "ديانا كمال الدين"، رغم أنها ابنة محافظتهم.
وتبدو "كمال الدين" في "دم النخل" وكأنها متعاقدة حصريا مع "أنزور" فيما يخص الأفلام التي تلمع النظام، باستخدام شماعة "محاربة الإرهاب"، وهي التي سبق أن كتبت كلا من: "رد القضاء" و"فانية وتتبدد" اللذين تصدى "أنزور" لإخراجهما.
وقد وصف أحد المنتقدين الحانقين "أنزور" بأنه داعشي صغير، ولكنه التمس له العذر أمام "ديانا كمال الدين" فالأول معذور بجهله تاريخ السويداء، أما الثانية فلا عذر لها أبدا.
وتركزت الانتقادات على لقطة يظهر فيها ممثل بدور جندي في جيش النظام اسمه "أنس جباعي" سبق أن أعدمه التنظيم في "تدمر"، وهو جندي يتحدر من السويداء.
وقد تعمد "أنزور" كما يقولون تصويره الممثل الذي يقوم بدور "جباعي" بأقصى درجات الجبن، وتعمد أيضا إنطاقه بلهجة أهل السويداء (وهو من السويداء فعلا)، ليرسخ صورة جبنهم في أذهان كل من يشاهد الفيلم كما يقولون.
الاستياء في السويداء لم يقف عند حدود الشتائم، بل إن هناك من توعد بالانتقام من "أنزور" وأهدر دمه، حتى يكون عبرة لكل من يتطاول على أهل الجبل، وقد علت هذه النبرة بعد شيوع خبر مفاده أن أحد من شاهدوا الفيلم يوم عرض في دار الأوبرا (بحضور بشار).. توجه نحو "أنزور" وأوسعه ضربا، ثأرا لـ"كرامة بني معروف" مما ورد في "دم النخل".
وذهب البعض إلى المطالبة برفع دعوى ضد "أنزور" تتضمن اتهامه بجرم النيل من هيبة الدولة
وإثارة النعرات الطائفية، وتدعو لرفع الحصانة البرلمانية عنه.
وحاول "أنزور" عبر فيلمه الجديد "دم النخل" الركوب على موجة "محاربة الإرهاب" من جديد، ولكن مستعينا هذه المرة برمزية كبيرة تحملها مدينة "تدمر" التي تعرض أهلها لجرائم وانتهاكات خطيرة وتعرض تراثها لنهب وتخريب لم يكن النظام بريئا منه إطلاقا، بل كان مساهما فيه بشكل مباشر وغير مباشر.
"أنزور" الذي بات موظف دعاية برتبة شبيح، أكثر منه مخرجا، حاول حشد أهم الرموز التي ترتبط بحاضرة البادية السورية والتلاعب بها، بدءا من زنوبيا وصولا إلى خالد الأسعد عالم الآثار الشهير وابن تدمر.
وقد كان من المترقب أن يحظى هذا الفيلم بقبول واسع لدى مؤيدي النظام، بمن فيهم من هاجموه اليوم، لولا أن "أنزور" وقع في مطب لهجة أهل السويداء ليضعها كبصمة على الجندي المرتعش خوفا من عناصر تنظيم "الدولة".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية