أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جرعة زائدة من الماء.. مزن مرشد*

من القصف على ريف إدلب - جيتي

استيقظت للتو، نهار عادي لا يميزه شيء، كعادتي دائما أستيقظ عطشى، بل أكاد اموت من العطش مددت يدي الى الطاولة الصغيرة بجوار سريري، تناولت كأس الماء الذي أضعه بجانبي قبل ان آوي إلى فراشي، سكبت كل ما في الكأس في جوفي دفعة واحدة.

آع... ما هذا الذي شربته؟ طعم مقرف لا يشبه ابداً طعم الماء القديم أو حتى طعم الماء النتن ولا طعم أي ماء.

شيئاً فشيئاً بدأ الطعم يتحول إلى المرار، ثم اختلط المرار بنكهة الصدأ، ما هذا الذي شربته؟

تأففت من الطعم المقرف لهذا الماء، شعرت بالغثيان والرغبة بالتقيؤ من قباحة المذاق.

نظرت الى الكأس الفارغ، ليس فيه أي أثر لأية مادة غريبة... مازال شفافاً صافيا كما هو، وفارغ، حملته، نظرت في عمقه تناوقت عيني لأعمق نقطة داخل الكأس، لكنها لم تشاهد ما يدعو للريبة، أبعدت الكأس عن عيني، قربته من أنفي شممته، أيضاً لا روائح غريبة ولا أي شيء غريب رائحة حيادية، أو لا رائحة، ضحكت من الفكرة تذكرت أستاذ الكيمياء في المرحلة الإعدادية وهو يشرح بإسهاب أن الماء بلا طعم ولا لون ولا رائحة، ضحكت بصوت مسموع، ما الذي افعله؟ كان الكأس مليئاً بالماء لا شيء غير الماء، لا طعم ولا لون ولا رائحة مثل ذاك الأستاذ عينه والذي لا أدري لماذا راودتني ذكراه رغم كل هذا الفارق الزمني.

مسترسلة في ذكرياتي ساهبة في فكرتي فجأة شعرت بثقل غريب في قدمي، حاولت تحركيها لكنني لم استطع، نظرت برعب فوجدت قدمي قد كبرت وتمددت وتجاوزت امتداد السري، تكاد تلامس الحائط المقابل لسريري، نظرت اليها بدهشة مقارنة بينها وبين قدمي الأخرى ، فجأة شعرت بثقل مماثل في يدي اليسرى حاولت تحريكها وأيضا لم أستطع كانت أثقل من استطاعتي، بل ثقيلة جداً، تحاشيت النظر صوبها وبقيت أنظر إلى كأس الماء بجانب سريري، تباً ما هذا الذي شربته وما الذي فعله بجسدي تذكرت القصة الشهيرة " أليس في بلاد العجائب" كيف قضمت الكعك فاستطال جسدها وكبرت أعضاؤها وصارت تشبه العمالقة.

أيعقل ان يكون الماء الذي شربته جرعة سحرية او خلطة سرية ما؟

من الذي دس لي تلك الخلطة السحرية العجيبة في هذا الكأس اللعين بجانبي ان كنت وحيدة في المنزل ولا يشاركني حياتي أحد.

أذكر اخر من دخل بيتي كان سميحة قبل عدة أسابيع ولم أعد أراها مذ ذاك الوقت لا أدري لماذا لم تعد لزيارتي مرة أخرى؟ قد تكون ركبت البحر وغادرت هي الأخرى مثل الكثيرين وقد تكون غارة ما لم تخطئها هذه المرة، سميحة صاحبة الرقم القياسي بالنجاة ففي قصف السوق منذ عدة اشهر، نجت بفارق دقائق فأودى القصف بالسوق وبحياة العشرات ونجت، وعندما قضى أخوها وزوجته واثنان من أبنائه تحت انقاض بيتهم، حال بينها وبين الموت مسافة ربع ساعة، المسافة الفاصلة بين بيتهم وموعدها مع إبراهيم الذي لم تخلفه يوماً، رغم القصف والقنابل والقتال.

وعند الحاجز فصلها عن الموت خمس دقائق، خمس دقائق فقط جعلتها تنجو من موت محتم في تفجير راح ضحيته كل من كان على الحاجز الذي عبرته للتو، فلم تصب بأذى .

فما الذي أخرها عني لأسابيع هذه الناجية المحظوظة؟

أفكاري بدأت تتوقع الأسوأ ليس لسميحة وحدها بل لنفسي ايضاً، لا أريد ان أنظر الى يدي اليسرى فثقلها وشى لي بانها تضخمت هي الأخرى حاولت ان أحركها باتجاه وجهي بدل أن أدير وجهي ناحيتها لكني لم أستطع.

رعب مسيطر على عقلي، ماذا لو كانت استطالت هي الأخرى، قاومت خوفي ودفعني الفضول والرهبة معاً بمعرفة ما حصل لذراعي اليسرى.

أخيرا قررت أن أنظر، أن ألتفت التفافة سريعة وأسترق نظرة خاطفة واحدة لا أكثر، نظرة واحدة ألتقطها على عجل، فقط لأطمئن أن يدي لم تستطل، نظرت سريعاً، وإذ بيدي طالت! طالت! حتى باتت بطول جسدي كاملاً وثقيلة ثقيلة، وضخمة، وقدمي هي الأخرى ثقيلة ولا أستطيع تحريكها.

مازلت اشعر بالعطش الكأس بجانبي فارغ، لا أستطيع أن أتحرك كي أجلب الماء ولا أحد عندي يجلب لي الماء، وسميحة اختفت منذ أسابيع.

أصوات الطائرات ماتزال تعوي في الخارج، أصوات الناجين والمستغيثين والمنجدين تصم أذنيّ، فُتح باب غرفتي على عجل استغربت كيف يعقل أن يفتح أحدهم باب غرفتي وبيتي كل أبوابه موصدة تماماً؟ دخل رجال لا أعرفهم يحملون جريحاً تبعهم رجال آخرون يحملون جرحى آخرين نظرت هذه المرة ملياً حولي، ليست غرفتي، يبدو أنني في قبو ما، النوافذ عالية تلتصق بالسقف مغطاة بشبك حديدي، رائحة الدماء جعلتني أصحو كمن شرب قهوته للتو، نظرت إليهم إلى الضوضاء والزحام حولي، مسعفون وجرحى ودماء، لم أهتم لهم كان ثقل أطرافي فقط يسيطر على عقلي.

نظرت إلى جسدي مليا فركت عينيّ أدركت للتو تحت الغطاء الأبيض الملطخ ببقع الدم، كان لي قدم واحدة، وفي كتفي الأيسر لفافة بيضاء غطت ما تبقى من ذراعي.

*من كتاب "زمان الوصل"
(183)    هل أعجبتك المقالة (180)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي