تزامن وجودي في مكتب للصرافة في تركيا قبل يومين، مع وجود شخص آخر، معه مبلغ مليون ليرة سوريا، ويريد أن يحوله إلى عملة أخرى، بينما بحسب قوله، فهذا المكتب الخامس الذي يقصده، ويرفض تحويل المبلغ له، حتى مع قبوله بسعر أخفض من أسعار الصرف المتداولة، عرض أخيرا على المكتب قبل أن يخرج، أنه يقبل أن يأخذ عوضا عنها، ألف دولار، أي أن الدولار بألف ليرة، ورفض الصراف، بعد أن خرج، أبديت أمام الصراف استغرابي كيف أنه لم يقبل بهذا العرض المجزي، بينما يبلغ سعر صرف الليرة 660 مقابل الدولار، فقال لي: وماذا أفعل بالليرة السورية..؟ تعال لأريك كم "شوال" لدي منها، ولا أحد يريد أن يشتريها..؟ هذا ما يسمونه بالعرض والطلب، وبأنه أحد أبرز أسباب انهيار الليرة السورية بحسب المحللين.
ومن جهة ثانية، فإن هذه الشوالات من العملة السورية التي لدى الصراف، سوف تجد طريقها إلى سوريا لاحقا، بسبب عدم الإقبال على شراء الليرة في الخارج، ومن ثم المضاربة بها من خلال استبدالها بالدولار، وهو ما سيؤدي حكما إلى انخفاضها، لكن السؤال المحير فعلا: ما الذي يدفع الناس للتخلص من الليرة السورية، ما دام النظام يحقق الانتصار ويعيد الأمن، بحسب قوله، للمناطق التي كانت خارجة عن سيطرته..؟ ألا يستدعي ذلك أن تتهافت الناس على اقتناء الليرة السورية، وخصوصا لمن هم في بلاد اللجوء المجاورة، من أجل التحضير للعودة إلى مناطقهم ..؟ والسؤال الثاني الأكثر حيرة: من أين تأتي الدولارات داخل سوريا، والتي يضارب بها تجار العملة..؟ ولماذا لا يصدر النظام قرارا فوريا، بتجريم حامل الدولار، مثلما كان الأمر في الثمانينيات ومطلع التسعينيات .. وبذلك يخفف من المضاربة إلى حدودها الدنيا.. ؟ وعلى فكرة، مثل هذا القرار بات يطالب به الكثير من محللي النظام الاقتصاديين، دون استجابة .. لأن من يتاجر بالدولار داخل سوريا، هم أنفسهم رجالات المخابرات والمقربون من بشار الأسد تحديدا.
قبل أكثر من أسبوع، كتب وزير الاقتصاد الأسبق، الدكتور نضال الشعار، بأن استقرار الليرة السورية، وعودتها للانخفاض، لن يكون إلا بعودة جميع اللاجئين والمهجرين إلى سوريا، وهو رأي صائب إلى حد كبير، لكن كان يستلتزمه توضيح أكثر من قبل قائله، بأن هذه العودة، لا يكفي لها القوة العسكرية والقبضة الأمنية، وإنما لا بد من الحل السياسي للأزمة السورية برمتها، الذي يجعل الشعب مطمئنا على روحه وممتلكاته داخل بلده، أما في الوضع الحالي، فلن يعود إلا البؤساء والفقراء، والذين لا حول لهم ولا قوة في بلاد اللجوء، وهؤلاء سوف يزيدون العبء على الليرة وسيساهمون في انخفاضها أكثر… أما العودة الحقيقية للاجئين والمهجرين، فالمقصود بها، عودة رؤوس الأموال والتجار أولا، فهؤلاء هم من سيحركون عجلة الاقتصاد والتنمية، وهم من سيدفعون الآخرين للعودة إلى بلدهم والعمل به، لكن كيف سيعود هؤلاء والنظام شاهر سيفه على رقاب الجميع ..؟ فيستولي على أموال هذا ويدمر أملاك ذاك..؟! ونقطة ثانية مهمة ذكرها الدكتور الشعار في منشوره، وهي ضرورة الإسراع بإعادة اللاجئين، لأنه كلما طال الزمن، فإن هناك جيلا سوف ينشأ ويكبر خارج بلده، ولن يعود يشعر بالانتماء إليه، وبالتالي لن يعود إلى البلد مجددا.
على أية حال، النظام لا يفكر بهذه الطريقة أبدا .. وواهم من يعتقد بأن بشار الأسد قلبه على البلد أو على الليرة السورية، ولمن يريد أن يعرف توجهات النظام لمواجهة انهيار الليرة السورية، يكفي أن يمر على ما تكتبه صحافته الاقتصادية، أو ما يقوله محللوه الاقتصاديون .. هناك حملة ممنهجة منذ أكثر من شهرين، على رجال الأعمال الذين ارتضوا البقاء في سوريا والعمل لصالح النظام، وتوصيفهم على أنهم تجار أزمة، وليسوا رجال أعمال وطنيين، كما في السابق.
وأغلب هؤلاء رجال الأعمال هم من الدمشقيين، والحملة بحسب الكثير من المراقبين، بدأت مطلع العام الحالي، بالحجز النهائي على أموال وممتلكات رجل الأعمال محمود عنزروتي، عديل ماهر الأسد، بعد أن صدر قرار بالحجز الاحتياطي على ممتلكاته في العام 2012، ثم بعد ثلاثة أشهر، طالت الحملة محمد السواح، رئيس ما كان يسمى اتحاد المصدرين السوريين، الذي تم إلغاء اتحاده، وإبعاده عن الواجهة الاقتصادية، مع أخبار تتحدث عن الحجز على ممتلكاته، بتهم تهريب أمواله وإيداعها في البنوك اللبنانية.
وحاليا، تتحدث الأخبار عن أن أسماء كبيرة من رجال الأعمال الدمشقيين، هم رهن الإقامة الجبرية، ويجري التحقيق معهم ومساومتهم على أجزاء كبيرة من أموالهم وممتلكاتهم، هذا الوضع لا يشجع أبدا على عودة الرساميل السورية إلى بلدها، بل على العكس، هو طارد للجميع، أما بخصوص الشعب السوري والليرة السورية، فلم يعد للأرقام أي معنى .. ونقولها بكل أسف: ترقبوا انهيارا مفتوحا لكل شيء ، باستثناء النظام .. !!
ترقبوا انهيارا مفتوحا لكل شيء.. باستثناء النظام!*

*فؤاد عبد العزيز - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية