تقول السيدة الخمسينية عبر الهاتف ويصل دمعها إلى أذني مع نبرة صوتها المتعب: "ما عادت سوريا بلد الفقير... بلدنا ظلمتنا كتير يا أستاذة ... عم نموت من الجوع ... عايشين مساترة خليها لله".
تجرحني كلماتها فطالما سمعنا هذا المثل منذ الطفولة، في سوريا وخارجها، أينما ذهبت كنت أسمعه "سوريا بلد الفقير"... وكانت سوريا بلد الجميع.
في شوارع دمشق لم تكن تستطيع أن تميز طبقياً بين المارة، فمستوى اللباس متقارب.. إذ كنت تجد ذات قطعة الملابس بثلاثة أسعار أو أربعة ... وكنت تستطيع أن تقتني من تلك الماركات الداخلة حديثاً إلى البلاد، من محلات المواسم الخاصة بها، والتي تبيع بربع السعر، فيلبس الفقير ما يشبه لباس الغني وبربع السعر.
في سوق اللحوم في "ساروجة" كنت تشتري جميع أنواع اللحوم وأفضلها بنصف سعر محلات قصابي "الشعلان" أو "القصاع" أو "جرمانا".
ومن سوق الهال تنتقي أفضل الخضار والفاكهة، بأقل من نصف سعر الكيلو منها في ساحة "القصور".. فيأكل الفقير ما يأكله الغني وبربع السعر أيضاً.
سوريا بلد الفقير ... كان فقراء سوريا وسياحها سواء يشترون ذات البضائع من سوق "الحميدية"، أحدهم يشتريها بسعر عادي جداً، ولحياته اليومية، والآخر يشتريها بسعر باهظ يحسب على سعر الدولار... يشتريها لتكون تذكاراً من سوريا يزين بها بيته هناك في إحدى القارات البعيدة.
سوريا بلد الفقير ... يتعلم أبناء الفقراء في مدارس عامة تُدّرس ذات مناهج المدارس الخاصة باهظة القسط، فيتخرج ابن الفقير متمكناً متفوقاً مثل ابن الغني، مختلفاً عنه فقط بدرجة إتقانه للغة الأجنبية، وإن كان الطالب مجداً، وأهلوه واعون لهذه المسألة، أتقن اللغة الأجنبية وكأنه تخرج من تلك المدرسة الخاصة..
سوريا بلد الفقير ... إذ كانت المرأة المقتصدة تستطيع أن تتدبر معيشة أسرتها بمدخول زوجها ومدخولها المتواضع إن كانت تعمل، ومن النادر جداً ألا تجد امرأة سورية لم تشترك في ما كن يسمينه جمعية، لتوفير بعض المال واستلامه دفعة واحدة، كقرض صغير تتدبر فيه الأمور الكبيرة التي لا يقوى عليها دخل الأسرة... كطلاء منزلها أو تغيير بعض قطع الأثاث، أو لتستمتع مع عائلتها بأيام عطلة قصيرة على شاطئ اللاذقية أو في سهول بلودان والزبداني ومؤخراً في منتجعات جبل الشيخ.
سوريا كانت بلد الفقير بامتياز، بالرغم من كل الصعوبات الاقتصادية التي كان بواجهها المواطن، ولكن ثبات سعر الدولار لأكثر من عقد من الزمن على مبلغ خمسين ليرة سورية جعل الوضع الاقتصادي يشهد القليل من الاستقرار على مستوى المعيشة.
اليوم وبعد تسع سنوات من التردي الاقتصادي، واستنزاف مقدرات البلاد واحتياطها بالتسلح والحرب على الشعب، تسجل الليرة السوري أدنى مستوى لها بتاريخ سوريا ... اليوم يصل الدولار إلى سعر الستمائة وستين ليرة سورية، ما ينبئ بدخول البلاد في وضع لا تحسد عليه، ولا يدفع الثمن، إلا المواطن المطحون في عجلة حروب مفتوحة عليه وعلى جميع الجبهات فلا أمان ولا ضمان ولا معيشة ... من قال بأن الشعب السوري لا يذل؟ الشعب السوري ذُل وأهين وتشرد ومات قهراً ...
بالأمس نرى صورةً لطفلة انتحرت في وسط العاصمة راميةً نفسها من على الجسر المسمى باسم الزعيم، الطفلة التي لم تتجاوز ربيعها الثاني عشر تنتحر جوعاً، طفلةً تشتهي الموت وتمتلك الجرأة لقتل نفسها، فأي ذل وأي يأس أكثر من هذا؟
يصرف الأسد أربعين ألف ليرة سورية للموظف كسقف لأعلى مرتب بالدولة... وسعر كيلو الأرز الجيد يتجاوز الخمسائة ليرة سورية ... يُعطى الموظف أربعون ألفاً وتُسعر أرخص حقيبة مدرسية لطفل، بسعر أربعة آلاف ليرة سورية ... حتى البطاطا، التي كانت تسمى خبز الفقير لم يعد الفقير قادراً على شرائها، وباتت اللحوم حلماً، مع وصول سعر الكيلو الواحد من لحم الغنم إلى سبعة آلاف ليرة سورية ...
سوريا بلد الفقير .... الآن سوريا بلد الفقراء والمسحوقين والمطحونين بالمعنى الحرفي للكلمة لكنها ليست بلداً للفقراء.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية