أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بطاقة عيد... مزن مرشد*

ريف ادلب - جيتي

أغلقت الباب خلفهم ... زوار قلائل ... جاؤوا على عجل وخوف...استدارت إلى منزلها الذي أصبح فارغا الآن... نظرت في الزوايا ... تلفتت حولها ...علها تلمح طيفه..علها تشعر بأنفاسه حولها..لكنها لم تستطع أن تدرك وجوده.

قرأت مرة في كتاب ما، أن الروح ترسل بعض الإشارات الفَرِحة لأحبائها بعد أن ترحل لتنبئهم أنها بخير... وها هي اليوم ... في اليوم السابع لرحيله وما تزال تنتظر تلك الإشارة الغامضة التي تنتظرها.

أصوات القذائف خارجاً.. تحيط بها من كل مكان..أصوات رعب الأطفال تصم آذانها..نصحوها بالمغادرة لكنها أبت..خافت على روحه أن تضل الطريق.. أرادت أن تبقى في المنزل الذي احتواهما.. تنتظر تلك الإشارة التي قرأت عنها يوماً.

أصوات القذائف تعلو...يتطاير الزجاج من حولها ... تختبئ في حمام المنزل البارد المعتم ...وحيدة تحصي عدد الغارات... تنتظر أن تكون القذيفة التالية فوق رأسها... لكنها لن تغادر... هدأت القذائف...خرجت من الحمام تفقدت المنزل ...أخطأها القصف هذا المرة أيضاً، وأخطأها معه الموت... أرادت أن تشعل شمعة لكن الكهرباء باغتتها خلسة...

فتحت باب غرفتها الباردة، جلست على حافة السرير نظرت إلى صديقها الإلكتروني، شعرت بشوق يجتاحها لمداعبة أزراره بعد أن طال هجرها له منذ أن أصيب الحبيب.

أحست بشوق عارم لأن تكتب لابنها خلف البحار رسالة صغيرة لتشعر أنها ما تزال في الدنيا... ابنها الذي ركب البحر هرباً من هذا الجحيم ... هي وزوجها كانا مصرّين على رحيله رغم خطورة الرحلة...وهو كان مصرّاً على أن يبقيا سوياً... معاً في الخراب أو معاً في رحلة البحر نجو بدايةٍ جديدةٍ في بلادٍ جديدة...لكن الحبيب الراحل عز عليه اسم لاجئ ...

أصر على البقاء في البلاد التي كانت بلاد النور ... البلد التي حملها في دمه جينات أصالة لا تنتهي ... البلاد التي حل الخراب بها منذ تلك الثورة التي قالوا إنها ثورة الفلاح ...

تلك الثورة التي حملت على مراكبها طلائع الاستبداد إلى كرسي السلطة وجاء الوريث الذي دمر بلداً كي يحتفظ بكرسي...

أرادت أن تطمئن على ولدها هناك في بلاد الشمال البارد، اللاجئ الجديد الهارب من موت محدق ... نسيت أنها هي من يستحق الاطمئنان...

هدأ الليل ... انقطع صوت الرصاص ومازال صوت أنين الألم يصل إلى مسامعها ... أزاحت الستارة عن النافذة القريبة ... هالها هول ما شاهدت ... أبنية كانت منذ لحظات أبنية والآن مجر ركام ... قبعات بيضاء تنبش الأنقاض لتخرج من تحتها الأجساد الغضة المدماة ... قلبها لم يعد يحتمل الحزن...

أصوات الاستغاثات ... الأنين... رائحة الموت ... رائحة الحياة الهاربة ... رائحة الأرواح ... لم تعد تميز ...

تركت المشهد أرخت الستار وأغلقت أذنيها عن الأنين فأنين قلبها أعلى صوتاً وأكثر ألما من كل الآلام ... تذكرت ... في الغد ستكون ذكرى زواجهما، أحست بالغضب، كيف يرحل قبل احتفاله معها، أحست بحنق وقهر وظلم معاً ... لعنته... لعنت الوريث ... ولعنت مكتشف البارود ... 

لعنت الطائرات ... لعنت القارب المطاطي ... ولعنت دول الشمال الباردة ... لعنت نفسها ولعنت الحياة ...

غضبت منه ... هو من فارقها .... كيف فعل وقد وعدها بملازمتها حتى الموت... لكنه ميت الآن ... فكرت ... لم ينكث وعده قط ... فعلا لم يفارقها إلا منذ اسبوع.

منذ شهر ... منذ شهر تماماً ...اختارته القذيفة ... قذيفة فتحت صدره ليمتزج دمه برغيف خبز كان يحمله لها ...

قررت أن تحتفل بالذكرى، وأن تجعلها سعيدة ولو كان غائبا ... ولو كان البيت خراباً والقلب خراباً والبلد بأسره بات مقبرةً ... لبست ثوب نومها المفضل... اندست في فراشها... وضعت جهازها المحمول على ركبتيها... فتحته وبدأت تداعب لوحته بحب... تخط بالحروف رسالة رقيقة لابنها البعيد... تطمئنه فيها عن حالها... تخبره عن المعزين وعن أكاليل الزهور وعن كثير من الأشياء التي كانت ستحكيها له لو كان بجانبها... لكنها لم تخبره بقصف اليوم ... ضغطت أمر الإرسال وسرعان ما هنأها الجهاز بأن رسالتها قد أرسلت بنجاح.

بدون أن تشعر... طلبت اإشاء رسالة جديدة وسرعان ما لباها صديقها الإلكتروني المطيع فأعطاها رسالة إلكترونية جديدة... كتب قبل أن تفكر...

" حبيبي الغالي ذكرى زواج سعيد اشتقت لك" ...

في أسفل الرسالة حملت صورة وردة جورية حمراء وأرسلتها إلى عنوان زوجها الراحل الإلكتروني.

أطفأت الجهاز وكلها سعادة بأن العيد قد قضي بخير.

أسبوع آخر قد مر... لم يعد المعزون كما في السابق... معظم الجيران رحلوا ... بات الحي فارغاً إلا من الركام .... رن جرس هاتفها، ردت بلهفة فهذا هاتف ولدها البعيد، سألها عن حالها اطمأن لوضعها وقبل أن يقفل قالها كمن نسي شيئا:

"ماما، على فكرة، بالامس رأيت أبي بالحلم، قال لي: قل لأمك شكرا على البطاقة والوردة الجميلة".

صمتت لم تعد قادرة على الكلام... أقفلت سماعتها وركضت مسرعة إلى جهازها الحبيب... لترسل شوقها ويومياتها الى رجل لن يمنعه الموت من حبها... ستبقى هنا لن ترحل.

*من كتاب "زمان الوصل"
(191)    هل أعجبتك المقالة (197)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي