أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

التطهير بالألم... مزن مرشد*

صورة تلخص ما يمر به السوريين - جيتي

نريد مكاناً للعيش يكون فيه الهواء أقل ثقلاً... نستطيع فيه التنفس دون عناء،مكاناً لا يحمل في زواياه ذكرياتٍ مؤلمة.

خرجنا نتسول بلاداً آمنة، وحياةً آمنة، ومستقبلاً آمناً ... وجدناهم جميعاً لكننا أضعنا أنفسنا.

هناك حيث تغص الأماكن بالذكريات، والدروب بالرفاق، كنا نعي تماماً من نحن، كنا نمر من أمام واجهات المحال التجارية، ننظر إلى صورنا المنعكسة على بلورها الكبير، نعرف أنفسنا فوراً، بل ونتغزل نحن النساء بأناقتنا المنعكسة في البللور، وبتسريحة شعرنا المنسدل على أكتافنا، ننتبه لوجوهنا كيف تبدو مع ما نضعه من نظارات أو مساحيق تجميل... كنا ننتظر الواجهة التالية لننتبه إلى قوامنا، هل ظهر عليه خسارة بعض الوزن؟

هناك حيث تحولت الذكريات إلى رماد، وكللت الشرائط السوداء صور الرفاق والأقرباء، وبرغم كل الألم كنا ما نزال نحن.

خييات كثيرة عشناها، وخذلان أكثر من أحباء وأصدقاء وأهل، لكن قدرتنا على التحمل كانت أكبر بكثير، كنا ننهض بعد كل خيبة أقوى مما كنا عليه، ننفض عن أبداننا غبار الخذلان ونسير، نبتسم ونردد مثلنا الكاذب المفضل "الضربة اللي ما بتكسر الضهر بتقويه"، لكن الحقيقة أن ظهورنا كانت منكسرة تماماً ولم يبقَ فيها مكاناً لخيبة أخرى، إلا أننا كنا نكمل الطريق بكامل هيبته وهيبتنا.

هنا باتت الغربة جرحاً غائراً نازفاً أبداً لا يندمل، نحاول أن نجففه، أن نرثيه بخيوط الأمل، بخيوط الضحكات، وخيوط الأصدقاء الجدد، الذين ما كان من الممكن أن نلتقي بهم لو بقينا هناك، ونتمسك ببعضهم رغم كل تحفظاتنا، من مبدأ "من القلة ماله علة".

نستمر بالحياة، نحاول أن نصنعها أحياناً، نتفاءل، ونحلم بالعودة... العودة التي تبتعد يوماً بعد آخر.

وبرغم انشغالنا بكل شيء ولا شيء، إلا أننا هنا، نعيش تماماً تحت الأنقاض، نشتم رائحة الدماء، ونتلمس بأيدينا أشلاء أجسادنا الهشة، ونشعر بملمس قطع لحمنا النازفة بين أصابعنا... نعم ما زلنا هنا نعيش الموت والحصار هناك.

نمتنع عن الطعام، نسمع أصوات أمعائنا الخاوية، نتألم جوعاً، ونعلم جيداً أنها لن تغير شيئاً في قضيتنا، فحلها لم يعد بأيدينا، لكننا نصر على أن نكون مثل البطل المأساوي عند "أرسطو"، وكأننا ننفذ نظريته حرفياً "التطهير بالألم"، كذلك نتابع نشرات الأخبار، والمجازر، ونغرق في صور الضحايا...نذرف الدمع غزيراً ونعيش المأساة وكأنها تسكننا ونغرق فيها.

نحاسب أنفسنا على أخطاءٍ لم نرتكبها، ونعاقبها على هجرتنا القسرية، ونتطهر بألمنا الخاص، فنجتر الألم، مراراً وتكراراً، ونعيشه بكامل الوجع، نزرعه داخلنا عميقاً، ليشهق صوتنا نشيجاً بكائياً مع كل اتصال لأحبائنا هناك، فيتحول هاتف الاطمئنان عليهم إلى اطمئنانهم علينا ... ما يزيد من ألمنا وعذاب ضميرنا الذي نرضيه بإرسال القليل من مالنا القليل أصلاً كمعونات ترضي ضمائرنا لوقت.

وننخرط في نشاطات سياسية واجتماعية لدعم القضية كنوع آخر يشعرنا بأننا مازلنا نحاول، ولم ننسَ.

نعرف كل شيء عن هناك وكأننا لا نعيش هنا، ونبقى نحلم بيوم ننتهي فيه من حالة التعذيب الذاتي، لنعود إلى وطنٍ بات يمثل لنا حلماً مليئاً بالكوابيس.

*من كتاب زمان الوصل
(196)    هل أعجبتك المقالة (208)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي