جاءت ردود الفعل على ما كتبه رسَّام الكاريكاتور السوري علي فرزات، استهزاءً بمجموعة ناشطين قرَّروا القيام بإضرابٍ عن الطعام لجلب انتباه الرأي العام إلى المجزرة السورية، استهزائيةً أيضاً تهدف إلى إلحاق الأذى المعنوي برسَّام الكاريكاتور المعروف، بالمقدار ذاته الذي ألحقه هوَ بالناشطين الـمُضربين.
ولم تبدأ تلك الردود بمطالبة فرزات بصورةٍ شعاعيةٍ لأصابع يده (التي كانت قد كُسِرتْ في الاعتداء عليه سنة 2011) ردَّاً على مطالبته المضربين بإثبات أنهم لا يتناولون العشاء بعد ذهابهم إلى المنزل، ولم تنتهِ بتذكيره بصداقته السابقة مع بشار الأسد.
بالطبع لا أكتب هنا لكي أخوض في هذا السجال، الذي أعتبره سطحياً إلى درجة أنه كان يمكن تفاديه بسهولةٍ، بل لكي أعيد صياغة سؤالٍ مهمٍّ ضاع في زحمة الأسئلة الكبرى التي عصفت بالثورة السورية: هل في وسع الإنسان السوري العادي الذي لا يملك أيّ سلطة فعلية، سواء أكانت سياسيةً أو عسكريةً أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً، أن يفعل شيئاً لنصرة قضيته؟
***
بعد سنوات كانت فيها مساهمة الإنسان السوري العادي في الثورة مساهمةً رئيسيةً (فهو الذي يتظاهر وهو الذي يُخطّط اللافتات وهو الذي يقدّم الشهداء ويحملهم في جنازاتهم وهو الذي تلهث الكاميرات لالتقاط ما يقوله وهو الذي يُحدّد أهداف الثورة...) تحوَّل إلى نازح ولاجئ ومشرَّد بلا حَوْل ولا طَوْل.
هذا التحوُّل، من الفاعلية الكاملة في المشهد إلى العجز الكامل عن فعل أيّ شيء مؤثّر، لم يتمّ تقبُّله بسهولةٍ لدى الفئة الأوسع من جمهور الثورة.
وما فاقم من حجم معضلة هؤلاء هو شعورهم الأكيد بأنَّ من يتحدَّثون باسمهم في مؤسَّسات المعارضة لا يملكون من أمرهم شيئاً، فإنما هم موظَّفو دول وسفارات، وأحياناً أقلّ من ذلك.
لذلك حاول البعض خلق استمراريةٍ ما لدورهم السابق بأيّ طريقة ممكنة. فتحوَّلوا من المشاركة في المظاهرات على الأرض إلى المشاركة في "الهاشتاغات" على "فيسبوك"، ومن حمل اللافتات في الداخل إلى توقيع البيانات في الخارج، ومن إسقاط التماثيل في المدن السورية إلى الإضراب عن الطعام أمام السفارات الأجنبية.
لقد فعلوا كلّ ما يمكن لإنسانٍ خسر كلّ شيء أن يفعله، وقدَّموا كل ما يمكن لإنسانٍ لم يعد يملك شيئاً أن يُقدِّمه.
وبالطبع لم يكن لدى الأغلبية من هؤلاء أيُّ وهمٍ بأنهم، بذلك، سيغيّرون مجرى الأحداث، وسيُوقفون القصف، وسيُسقطون الأسد. لم يكن المضرب عن الطعام أمام سفارةٍ مصدّقاً بأنَّ أمعاءه الخاوية في وسعها تغيير سياسات الدول. ولم يكن كاتب البيان (أو صائغ "الهاشتاغ") مصدّقاً بأنَّ كلماته ستقنع الجنود بعدم متابعة القصف.
إنَّ حاجة السوريين العاديين إلى القيام بشيءٍ ما –أيّ شيء- يجعلهم يشعرون بأنهم ينصرون قضيَّتهم هو الذي كان يُحرّكهم، وليس أوهامهم بأنهم سيُغيّرون المشهد.
إنه فعلٌ أشبه بأن يقوم المرءُ بوضع قطعة نقدية صغيرة في يد فقير، مع علمه بوجود مئات ملايين الفقراء في العالم. إنه لن يُغيّر شيئاً في مشهد الفقر بهذه القطعة النقدية الصغيرة، ولكنه سيُريح ضميره بدعوى أنه يفعل كلّ ما يستطيعه.
لذلك فإنَّ تقزيم السجال إلى جزئية حبّ البعض للظهور والتصوير والاستعراض، كما فعل الأستاذ فرزات، هو تقزيمٌ لأكثر سؤالٍ يطرحه السوريون العاديون على أنفسهم كلَّ يوم؛ هو استخفافٌ بالسؤال اليوميّ والمؤرّق للإنسان السوري العادي: ماذا أستطيع أن أفعل لنصرة الثورة؟
البعض وجد الجواب بأن لا يبقى ساكناً، وأن يقوم بأيَّ فعلٍ، بغضّ النظر عن جدواه. وله كامل الحقّ، وله كامل الاحترام.
*كاتب وشاعر سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية