أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حكاية المدينة المشاغـــبة " الرحيبة ".



مازالت صحافتنا النَسخية تعتمدُ على ا لقوالب الجاهزة في إطلاق التعابير والأحكام والقيم، فالاشتباك الذي حدثَ بين أهالي مدينة الرحيبة في ريف دمشق وشرطة نزع المخالفة وُصِفَ في معظم الصحف المطبوعة والإلكترونية بالشغب.
 ورغم أنّ ماحدثَ قد تكرّر في السنوات الأخيرة في أماكن متفرّقة من القطر بدرجاتٍ متفاوتةٍ في الشِّدة مما يجعله همّاً شعبياً فإنّ الصحافة  لم تهتمّ بمعالجة الأسباب  والدوافع.

قلّ أن تخلو مدينة أو قرية عندنا من مخالفات البناء، ومن الطبيعيّ أن تسعى الدولة لمنعِ هذه المخالفات وقمعها في بداياتها سواءٌ كان هدفها الحفاظ على المنظر العام أم على الممتلكات العامة أم على سلامة التخطيط والتنظيم العمراني.
 أمّا أن تنتظرَ إلى أن يكتملَ البناءُ المخالفُ فتهدمَه بعد أن يصبحَ سكناً لعائلة وأطفالٍ لامأوى آخرَ لهم فإنّ هذاغيرُ إنسانيّ.

وُضعتِ القوانينُ لخدمة الإنسان ولتنظيم أمور حياته ضمن مجتمعٍ متكافل.  وقد يقودُ تباينُ الخبراتِ الثقافية والتجاربِ الإنسانية إلى سنِّ قوانينَ لاتناسب الأكثرية، والخطرُ الأكبرُ أن تصبحَ حماية القانون أهمَّ من حماية الناس أنفسهم، وهذا ماحصل مع القانون رقم واحد لعام 2003 الخاص بالبناء وإزالة المخالفات.
 فارتفاعُ كلفة رخصة البناء دفعتِ الكثيرين من ذوي الدخل المحدود والمتوسط إلى البناء دون رخصة.
  أمّا البندُ الذي يحدّد مساحة قطعة الأرض الصالحة للبناء فيمنعُ الترخيصَ لما دونها ويهملُ مافوقها فيعدُّ اغتيالاً حقيقياً لأحلام الفقراء بامتلاك مساكن صغيرة تأويهم، و اعتداءً على حقوق صاحب الأرض الكبيرة نسبياً الذي يضطرُّ إلى تجزئة أرضه بطرائقَ غير قانونية لتتطابقَ مع القياسات المحددة.


وماذا يفعلُ البائسُ الذي ورثَ قطعة أرضٍ صغيرة أو اشتراها بشقّ النفس إزاءَ هذا القانونِ الذي يرفضُ الترخيصَ له؟!!! ماذا يفعل غير أن يبني دون رخصة، أو يضطرَّ للرشوة مرتكباً مخالفتين معاً؟!!!

يذكرُ المكتبُ التنفيذيّ لمجلس بلدية الرحيبة أنّه نبّه بعدّة كتبٍ إلى تجاوزات رئيس البلدية الذي أخذ الرشاوي من كلّ مخالفٍ، ثم كتبَ ضبطاً بالمخالفة ليحميَ نفسه من المسؤولية.  كما أكّدَ أمناءُ فِرَقِ الحزب أنّهم أيضاً رفعوا شكاوٍ إلى قيادة الفرع حول تجاوزات رئيس البلدية، وكذلك رفع مندوبو الرقابة والتفتيش تقاريرَ إلى المسؤولين، لكنّها اختفت كسابقاتها.


وجاء إنذارُ المحافظة لأصحاب البيوت المخالفة بإخلائها في أول حزيران، فحاول بعضُ الأعيان مقابلة محافظ ريف دمشق لطلبِ تأجيل التنفيذ كونَ الوقت غير مناسب وامتحان الشهادتين الثانوية والأساسية على الأبواب، لكنّ الهاتف المحمول للسيد المحافظ ظلّ مغلقاً طوال اليوم، وجاءت جرّافاتُ المحافظة مرافقة بالشرطة في الصباح التالي، فهدمت خمسة منازل وسوّتها بالأرض تماماً.

  و جميع هذه المنازل تخصُّ فقراءَ بنوا على أراضٍ أصغر من الحدّ المسموح أو دون رخصة.
 يقولُ أصحابُ هذه البيوت إنّهم خُدِعوا وظنّوا أنّ الجرّافاتِ ستزيل جزءاً من بيوتهم فقط فأخلوها طائعين ليفاجَؤوا بهدمها كلّياً، ثم زادت الشرطة من استهتارها وعنفها فأجبرت امرأة على مغادرة بيتها وهي في ثياب النوم الصيفية ممّا جعل الناسَ يثورون ويهاجمون الشرطة بالحجارة والعصيّ، وقد تفاقمَ الأمرُ سوءاً عند مجيءِ المئات من عناصر الشرطة وحفظ النظام واستخدامهم للرصاص المطاطيّ والقنابل الدخانية.

وحين رأى الأهالي رصاصة شرطيّ تفجّرُ دماغ الفتى الصغير محمد عبد الكريم توتي، الذي كان يستعدُّ لتقديم امتحان الشهادة الأساسية بعد يومين، جنّوا وأحرقوا بناء البلدية وبيت وسيارة رئيسها الذي هرب مباشرة.
  وتتابع تدفق العنف فقتل رجلٌ آخر كان في طريق ه إلى المستوصف ليعطيَ طفله اللقاحات الدورية.

وصفَ السيدُ المحافظ ماجرى بأنّه إثارة للشغب، ويشعرُ معظمُ أهالي الرحيبة بالأسف للتخريب والفوضى اللذين حدثا، لكنهم يعلّلون من ناحية أخرى أنّ ماحدثَ هو ردّة فعل على الأسلوب العنيف الذي تم به تطبيق القانون أولاً وعلى قانون البناء الذي لم يراعِ خصوصية المكان ثانياً فساوى بين العاصمة والمناطق السياحية والرحيبة التي هي جزءٌ من البادية.
ويتساءلُ البعضُ عن الغاية من رفع كلفة الرخصة إلى حوالي المائة ألف ليرة وأحيانا أكثر بكثير خاصة أنّ 10% منها فقط يعودُ إلى البلدية. 


 لايفهمُ المواطنُ لماذا عليه دفعُ مبلغ كبير جداً من المال، فالمهندسُ الذي كان يقفُ أمام مرسمه أياماً لينجزَ رخصة واحدة صار بمقدوره في ضوء التقنيات الحديثة أن ينجزها خلال ساعات.
 
يقول المحامي حيدر سلامة إنّ قانونَ البناء هذا أعمى وجائرٌ مالم يترافق مع إحداث الدولة قرىً نموذجية تتناسب مع كل منطقة.
 ويشيرُ إلى أنّ "هدم الأبنية بعد إتمام إنشائها هو جريمة ترتكبها الدولة بحقّ الاقتصاد الوطني من خلال إتلاف ملايين الليرات السورية، وهي كلفة إنشاء هذه الأبنية ومايتبع ذلك من إحساس المواطن بالغربة. 
كان يتوجّبُ هدم المخالفة حال البدء بها أمّا وقد صارت أمرا واقعاً فمن المستفيد من هدمها؟؟؟"

إنّ قانوناً يشرّدُ الناسَ من بيوتهم ويدفعهم إلى العيش في مخيماتٍ داخلَ الوطن هو قانونٌ غيرُ أخلاقيّ.
 والحديثُ عن لاأخلاقية القانون لايعني أبداً لاأخلاقية واضعيه، وإنّما يعني أنّ القانونَ لم يُدرَس بشكلٍ جيد، وقد أثبتَ تحقيقه ثغراتٍ وضعفٍ وعيوبٍ لابدّ من معالجتها قبل أن يصيرَ مرضاً سارياً يفتكُ بالمجتمع.

حبا اللهُ الرحيبة بميزاتٍ وثروات طبيعية هامة إذ ينافسُ رخامها الأصفر الجميل أفضل أنواع الرخام في العالم، ويعملُ ثلثُ الأهالي في هذه المصلحة بين عاملٍ وصاحب مقلع أو منشرة.


  كما تُعَدّ مركزاً دولياً لصيد وتجارة الطيور الحرة التي تُصدّر إلى منطقة الخليج العربي. بالمقابل رافقَ ظهورَ هاتين المهنتين غورٌ وجفافٌ في المياه، فمنذ نحو خمسةٍ وثلاثين عاماً بدأ التصحّرُ يغزو القرية الخصبة لتصبحَ امتداداً لبادية الشام.


ورغم ثروات المدينة فإنّ انعدام المشاريع التنموية فيها حدَّ من التطور الاقتصادي المتكامل، واقتصرَ هذا على وجود حركةٍ عمرانية فردية وقوية.  كثرة الفِلَل والمنازل الفخمة في الرحيبة جعلت البيتَ عنواناً لنجاح المرء وغاية يتبارى ويتنافس حولها الطامحون.  صار البيتُ قضية هويّة ووجود.
  تدمعُ عينا رجلٍ مسنٍّ وهو يروي كيف كانت حفيدته الصغيرة تشير بإصبعها إلى البعيد: "جدّي.. ذاك بيتنا الجديد" ويقولُ: لم يعد عندها بيتٌ الآن.

 


تبتسمُ أمُّ الصبي محمد ذي الأربعة عشر عاما ابتسامة مدهشة في طيبتها وتردّدُ: مابعرف ليش قتلوه. ابني مانه مشاغب... بس ركض يتفرّج!

الثاني من حزيران... الثلاثاء الأسود في الرحيبة... جنازتان وآمال بشفاء الجرحى المصابين وإطلاق سراح المعتقلين... وعناصر الشرطة وحفظ النظام مازالت تطوق حيّ دار البلدية... ونثراتٌ من الدخان الأسود مازالت تطيرُ وتسقط في البيوت من أثر عجلات السيارات المحروقة.


لقد أنهكتِ الرحيبة صراعاتُ القوى والمتناقضات: الرخام، الطيور الحرة، الجفاف، وأخيراً إهمال البلدية وضعف التنمية والتطوير، فأفرز هذا الخليطُ ضغطاً نفسيّاً وفوراناً عند النا س، وخاصة الجيل الجديد الذي ظنّ الجميع أنّه فَسَد ومال إلى الاستسهال وحبّ المظاهر واقتناص الفرص وغيرها من عيوب مجتمع يلهثُ وراء المال.  يحاولُ أبٌ أن يمنعَ أبناءه من المشاركة في الأحداث العنيفة، فيصرخَ به أحدهم:  " شاطر بس تتفرّج عالجزيرة؟!!!"
 فيردّ الأبُ حائراً: "لكن هؤلاء ليسوا إسرائيل... إنهم شرطة من بلادنا!!!!"
هكذا تختلطُ القيمُ والمفاهيمُ في مجتمعٍ تُرِكَ لينمو وفقَ سياقه الخاص.


  لم تهتم البلدية ولا المحافظة بتطوير هذه البقعة المضطرمة، ولم تحظَ الرحيبة يوماً بمجلسٍ بلديٍّ واعٍ ونزيه، فخطةُ هدم السبعين منزلاً اليومَ ليست أسوأ من هدم سابقٍ للجامع الأثريّ ذي المنارة المميزة، والقناطر الرومانية التي كانت تجرُّ مياه الشرب إلى مملكة تدمر قديماً.


قد أحالَ الإهمالُ الذي منيت به الرحيبة ثرواتِها إلى نقمةٍ وخطرٍ وجنونٍ ينذرُ دوماً بالانفجار.


الرحيبة : قنابل دخانية .. والشغب أدى الى وفاة اثنين

امل عريضة - زمان الوصل
(377)    هل أعجبتك المقالة (314)

ابو زهدي

2009-06-06

الفساد اصبح اكبر من البلاد .. في جميع المجالات .. والله يكون بعونك يا شعب ويا بلد.


2009-06-08

شكرا على الدقة والموضوعية والبساطة والعفوية التي جعلت الفكرة في متناول القراء.


خالد

2009-06-19

نسيت الكاتبة فكرة هامة وهي أن براعة شرطتنا قد تتجلى افضل في كتابة السيناريو وإخراجه فهم يقلّدون باب الحارة وقصة عربي حين نقلوا الطفل المقتول من مشفى جيرود إلى مشفى دوما دون مبرر إذ كان قد مات مباشرةفقط لتفبرك تقريرا طبيا يقول أن الفتى أصيب بطلق ناري عيار 5.5 أي مما لايوجد مع الشرطة. وهي تريد ان تقول أن الطفل قتل برصاص اهل البلد على علم أن الأهالي قاتلوا بالحجارة والعصي والكثيرين رأوا الشرطي الذي أطلق النار. ليتهم بعد فشلهم في تحقيق الأمن يتحولوا إلى الاخراج الفني فربما حظهم أفضل. مع الشكر للكاتبة.


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي