قراءة متأنية في تغطية الإعلام السوري لما أسماه "عودة أهالي القصير" تبين أن ما حدث أقرب لمسرحية للاستهلاك الإعلامي أكثر منه لعودة فعلية لأهالي المدينة الخاوية على عروشها منذ سبع سنوات أو يزيد.
لم تفلح الكاميرات المتواجدة في كل زوايا المشهد الإعلامي على كثرتها في إعطاء زخم للأعداد الهزيلة من أبناء المدينة "العائدين"، في محاولة مستميتة من ماكينة الإعلام الرسمية لإظهار أكبر عدد ممكن من الأشخاص في مسير القافلة التي قيل إنها "للعائدين" إلا أن قليلاً من التفحص للمقطع المتداول يظهر أن الصَف الأول كان مجموعة من المصورين ثم مجموعة لرجال أمن بعضهم ينتمي لميليشيا "حزب الله" وآخرين لحزب البعث تليها مجموعات تابعة للحزب القومي السوي الاجتماعي والذي تولى قيادة القافلة (ويضم في غالبيته العوائل المسيحة في القصير)، ومن ثم يظهر الأهالي القاطنون في المربع الأمني للمدينة من العاملين بوظائف حكومية.
وفي النهاية تتذيل القافلة بعض العوائل من القصير العائدة من "حسياء" والتي من أجلها يقام الحفل الفني والاحتفال الجماهيري الكبير بحسب رواية مراسل النظام حرفياً، والذي أضاف أن عدد العائدين بلغ 300 عائلة إلا أن حقيقة العدد وبحسب ناشطين من أبناء المدينة لم يتجاوز330 شخصاً، إذ ظهرت الحافلات الخضراء سيئة الصيت شبه فارغة عند مدخل القصير وهي تقل العائدين وبدا لافتاً نزول الأهالي منها دون حقائب أمتعة أو أية متعلقات شخصية، ما يشكك برواية النظام حول عودتهم ويجعلها أقرب للزيارة.
فيما اعتاد السوريون على مشهد هذه الباصات ممتلئة عن آخرها في دفعات التهجير القسرية، ويضاف إلى التغطية القاصرة لإعلام النظام أن غالبية المستطلعة آراؤهم في المقابلات التي بثت على الهواء تعود لأبناء المدينة القاطنين أساساً وليس للأهالي القادمين من "حسياء".
وبدا لافتاً في المشاهد القليلة التي نقلت من قلب "القصير" ومن مدخلها تحديدا طلب إحدى السيدات من عمال الكهرباء تمديد خط كهربائي لمنزلها الذي يبدو أنه كان قريباً من المربع الأمني الآهل بخمسة آلاف بالكاد يحصلون على الحد الأدنى من مقومات الحياة من ماء وكهرباء.
وفي المجمل توحي كواليس هذه المسرحية الرديئة الإخراج أن ما تم بالفعل هو إذن أعطي على مضض وتحت ضغوط دولية لبعض الأسماء لزيارة المدينة والوقوف على أطلالها فحسب، ولأيام قليلة ومن ثم يعودون أدراجهم من حيث أتوا من "حسياء" وبصمت يخلو من صخب الإعلام.
دراسة أمنية
وبينما يروج إعلام النظام أن الحكومة تحضر لمزيد من الدفعات ينقل عن اهالي القصير أن المدينة مبادة عن بكرة أبيها وأن البنية التحتية فيها مدمرة في بالكامل، سيما العدد الكبير للمنازل المدمرة فضلاً عن أن المنازل التي لم تسوّ بالأرض ستكون بلا أبواب أو نوافذ بأحسن حال.
وكان النظام السوري قد أجرى قبل سبعة أشهر دراسة أمنية مستفيضة لأهالي "القصير" من موظفين ومدرسين وعاملين في القطاع الصحي ممن يقيمون في "شنشار" و"حسياء" جنوب حمص والقلمون بريف دمشق، ليصدر لاحقا لوائح تضم 400 اسم حصلت "زمان الوصل" على نسخة مسربة منها تعود لعائلات وليس أشخاص، مع البيانات الذاتية لأفرادها مشفوعة بأماكن عملهم، ممن شملتهم الموافقة على زيارة القصير، ولكن تاليا لهذه الموافقة فوجئ نحو 70 شخصاً بمنعهم من الانضمام للقافلة دون ذكر أية أسباب.
ونقل عن الأهالي من مصادر كانت حاضرة منع طبيب يدعى "محمود" من الركوب في إحدى هذه الحافلات فضلا عن أسماء ثانية دون أي تبرير للمنع.














والسؤال المشروع اليوم لماذا اختار النظام هذا التوقيت للتسويق لعودة بعض أهالي القصير إليها، وهي فارغة منذ الخامس من حزيران يونيو صيف 2013 وقتما قال النظام في حينها إنه "طهرها من الإرهاب" مستخدماً الطبل والزمر ذاته الذي استخدمه في "مراسم العودة"؟
يؤكد مصدر مطلع من أهالي البلدة التي تقع قرب الحدود اللبنانية أن نظام الأسد يحاول ذر الرماد في العيون إذ يقول إنه أعاد وسيعيد المزيد من أهالي القصير إليها، لأنها منذ دخول قواته قبل سبع سنوات تحولت المدينة إلى معسكر لعمليات حزب الله التدريبية البعيدة عن عيون الرقابة الدولية ومستودعاً لأسلحته والتي استهدفها الطيران الإسرائيلي في أيار مايو/2018.
فالقصير، كما يقول المصدر، محاطة بقرى وبلدات ذات بيئات نابذة للثورة السورية بسبب تركيبتها السكانية وارتباط أهل بلدات غرب العاصي بعلاقات اقتصادية مع حزب الله تتعلق بتهريب السلاح والمازوت، فضلاً عن علاقات مصاهرة ونسب تربط بين أهل هذه القرى وعوائل لبنانية تنتمي لحزب الله في "الهرمل" وغيرها.
وعزا المصدر "عودة الأهالي" الشكلية إلى أنها جاءت استجابة لمطالب دولية تضغط باتجاه تشذيب المخلب الإيراني في سوريا، ولاسيما في القصير، يرافق ذلك حزمة إجراءات تتبعها حكومة النظام لإظهار ما يشبه عملية سحب البساط من تحت الإيرانيين مجاملة للروس بعد اتساع الشرخ بينهما، كعزل "جميل الحسن" رجل المخابرات الجوية وابن ريف القصير المحسوب على إيران.
إلا أن القصيراويين، حسب المصدر، يعرفون تماما أنهم حال عودتهم يكونون تحت مجهر النظام وحزب الله بحيث تقيد حركتهم داخل القصير وخارجها، ويحظر عليهم الاقتراب من قرى غرب العاصي.
وختم بالقول "باختصار لن تكون القصير التي عرفوها وسكنوها يوما بل ستكون معتقلا كبيرا".
جعفر محب الدين - كريمة السعيد - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية