ما إنْ بدأ الحراك الشعبي في سوريا، حتى اتَّجهت أنظار الشعب السوري إلى "نجوم" المسلسلات لمعرفة موقفهم.
***
في مجتمعٍ، كالمجتمع السوري، تمَّ تفريغه –طوال نصف قرن- من النُّخب الثقافية الجدّية، سواء بالسجن أو بالنفي أو بالتدجين، تحوَّل ممثّلو الدراما ومشاهيرها إلى "نخبة ثقافية"، في مقابل تدمير منهجيّ مُورسَ ضدَّ المثقَّفين وأدوارهم.
لم تكن الأنظمة الاستبدادية غافلةً، يوماً، عن أهمية النخب الثقافية وتأثيرها في المجتمعات، لذلك سعت إلى تدجينها بشتَّى الوسائل؛ التي شرَّقتْ وغرَّبتْ دون أن تنجح بالخروج من ثنائية الترهيب والترغيب.
المؤسَّسة الأمنية في سوريا، الحاكمة الفعلية للبلاد طوال عقودٍ من الزمن، وجدت أنه من الأسهل خلق "نخبة ثقافية" جديدة، خفيفة ومصنوعة بمعرفتها، يتمّ تقديمها باعتبارها "النخبة الثقافية السورية".
الخلفية اليسارية لمعظم مثقّفي سوريا، وواقع المجتمع المتَّجه أكثر فأكثر نحو التديُّن، سهَّلا المهمَّة.
كان رجال الأعمال ورجال الدين وغير فئات من المؤثّرين في المجتمع، قد تحوَّلوا إلى جزء من السلطة. بينما انحصرت خيارات المثقّفين ما بين زاوية في السجن، أو زاوية في صحيفة حكومية، أو زاوية في البيت.
"سلطة" التلفزيون الهائلة التأثير على المجتمع، والتي تصدَّرت المشهد بلا منازع، وُضعت في يد المؤسَّسة الأمنية.
بالطبع سيَعجب المرء حين يسمع كلاماً عن إشراف المؤسَّسة الأمنية في بلدٍ ما على صناعة مثل الدراما. سيَعجب المرء وهو يتخيَّل أنَّ الاسم الأهمّ الذي كان يجب أن يوضع في شارة المسلسل، ليس اسم الـمُخرج، بل اسم أحد ضبَّاط المخابرات.
تخيَّلوا مثلاً اسم علي مملوك، بدلاً من اسم بسَّام الملَّا، في شارة مسلسل "باب الحارة"! أو اسم جميل الحسن، بدلاً من اسم نجدت أنزور، في شارة مسلسل "الجوارح"! هذا ليس مزاحاً، إنما هو حقيقة الدراما السورية في حال تمَّ تصويرها صورةً شعاعيةً.
المجتمع الذي تمَّ عزله عن السياسة والشأن العام، بشكل نهائيّ وعنيف، كان من الطبيعي أن تكون قابليته لهذه "النخبة الثقافية" الجديدة كبيرة جداً، لأنها "نخبة" مسلّية وصانعة للكوميديا والترفيه والدراما العاطفية، وقبل ذلك كلّه هي "نخبة" غير متطلّبة ولا صلة لها بالسياسة وبالنقد وبكلّ ما يمكن لـ"آذان الجدران" التقاطه.
فراغ السياسة والثقافة تمَّ ملؤه بالدراما والترفيه عبر هذا "النخبة" غير الجادّة، وغير المسيَّسة، بالمعنى الحقيقي للسياسة، وغير المثقّفة، باستثناءاتٍ قليلة، والتي لا يحتاج تلقّي نتاجها إلى امتلاك أيّ أدوات معرفية.
لقد نجحت الإدارة الأمنية في سوريا بصنع "نخبة ثقافية" جديدة سهلة القياد، تحلّ مكان النخبة الثقافية القديمة التي تمَّ تفكيكها، بشكل مروّع جعل البعض -مع مرور الوقت- يعتقدون بأنَّ سوريا هي بلد بلا مثقّفين.
لذلك، وعلى عكس المؤسَّسات الثقافية الرثَّة والباهتة وغير المؤثّرة، كـ"اتحاد الكتَّاب العرب" مثلاً، ساعدت الإدارة الأمنية في صنع مؤسَّسات فنّية حديثة وبرَّاقة ومؤثّرة.
صارت شركات الإنتاج التي يملكها أشباه الأُمّيين، كالمهرّج محمد قبنض، هي مصانع "الثقافة" في سوريا. وصار "نجوم" المسلسلات يُقدَّمون كـ"رموز" تمثّل ثقافة البلد.
***
حين اندلعت الثورة السورية، وفي ما يخصّ المجال "الفنّي"، تنفَّس نظام الأسد الصعداء، لأنَّ أمله لم يخبْ بهذه "النخبة" التي صنعها بنفسه، حيث تحوَّل أفرادها إلى جنود فعليين في جيشه.
خطاب بعض هؤلاء تفوَّق في عنفه وتدليسه على خطاب المؤسَّسة الأمنية نفسها. بعض "النجوم" راح يتوعَّد الناس ويُحرّض عليهم. والأكثر "ذكاءً" بينهم حاول إلباس خطابه التدليسي لبوسَ "العقلانية". بينما تابعت فئةٌ منهم حياتها مع صور "السيلفي"، متجاهلةً المذبحة المرتكبة بحقّ الذين اعتادت على تسميتهم بـ"الجمهور".
حالات "الانشقاق" عن المؤسَّسة "الفنّية" كانت قليلة، بالقياس إلى الحجم الكبير للعاملين فيها. والشجعان الذين قرَّروا الخروج على هذه الجوقة تمَّ تشريدهم في كلّ بقاع الدنيا، بعد مصادرة أملاكهم في الداخل.
***
لقد برز جنرالات الأمن في المذبحة السورية، حاقدين ملطَّخين، وعلى أكتافهم سيوف ونجوم... أكثرها لمعاناً، وعلى الإطلاق، "نجوم" المسلسلات.
*معارض وكاتب سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية