أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الحاجة إلى الرمز... ماهر شرف الدين*

الشعور بالحاجة إلى الرمز هو شعور أصيل في زمن المنعطفات الكبرى في حياة الشعوب

ترافقَ إجماعُ قطاعٍ واسع من جمهور الثورة السورية على اعتبار الشهيد عبد الباسط الساروت رمزاً، مع جملة من التساؤلات، أخذ بعضها شكل الاعتراض.


وفحوى ذلك الاعتراض تتعلَّق بمؤهّلات الساروت كشاب "بسيط" غير متعلّم، وبتقلُّباته الأيديولوجية؛ بين خطاب مدني جعله يقف منشداً إلى جانب الفنانة الراحلة فدوى سليمان ويرفع لافتة عن "يسوع" في تشييع الشهيد باسل شحادة، وخطاب ديني جعله يتعامل بنبرة "ودّية" مع تنظيمات مُدرجة على لوائح الإرهاب.


والحقّ أنَّ مثل هذه المقاربات لحالة الساروت تبقى ناقصةً، ما دامت قد أغفلت الجانب الأهم الذي قامت عليه رمزية هذا الشخص، ألا وهو حيازته كلّ مواصفات "البطل الشعبي"، الذي أجاد الصديق إسلام أبو شكيّر بوصفه بأنه فاتن الأرواح عبر التاريخ.


فلو كانت مقاييس اختيار الرموز تقتصر على المؤهّلات الفكرية و"الاستقرار" الأيديولوجي للشخصية، لكان المفكّر الراحل طيّب تيزيني، ابن مدينة حمص أيضاً، والذي سبق الساروت إلى الرحيل بأسابيع قليلة فقط، أَوْلى بهذه الرمزية منه.


إنَّ قياس الساروت بغير مقاييس البطل الشعبي ليس ظلماً له فحسب، بل هو خطأ مهني أيضاً. فالساروت ليس مفكّراً سياسياً ولا قائداً عسكرياً ولا مطرباً رسمياً يتمّ تقييمه بشروط الطرب والموسيقى (كما فعل التافه زياد سحّاب حين استغلّ استشهاد الساروت ليعطي رأيه بصوته عبر كلمات نابية).


سيرة الساروت هي سيرة البطل الشعبي الذي تماهى مع الشعب إلى درجة أنَّ مديحه صار يعني مديحاً للشعب نفسه.


لم يمتلك الساروت مشروعاً سياسياً بالمعنى الخاص للمصطلح. كانت الثورة كمشروع سوري عام هي مشروعه الشخصي. لم يُعنَ أصلاً بأن يكون صاحب مشروع سياسي، ولم يدَّعِ أي قدرة على التنظير أو التأطير الفكري. ما قاله الناس في المظاهرات ردَّده الساروت، هتافاً أو إنشاداً.
لولادة البطل الشعبي ليس من الضروري للمرء أن يملك مشروعاً خاصاً، فالأهم هو أن يملك مشروعية خاصة. وقد امتلك الساروت مثل هذه المشروعية عبر الإقدام والشجاعة والالتصاق بالناس والأرض.


وفي نسقٍ موازٍ، فإنَّ محاولة فهمنا لسبب تبجيل شهادة الساروت، على المستوى الشعبي، أكثر من غيرها، هي في عمقها محاولة لفهم حاجة الناس إلى وجود رمز.


لقد جاء استشهاد الساروت في لحظةٍ تشهد فيها الثورة السورية تفكُّكاً رهيباً، حتى يكاد أن يُخيَّل للمتابع بأن ما بقي منها لا يتعدَّى الركام.

الإجماع الشعبي الذي تحصَّل على مشروعية رفع الساروت إلى مستوى الرمز، ليس ابن الواقعة (واقعة الاستشهاد) وحدها فحسب، بل أيضاً ابن الحاجة إلى ولادة رمز جامع في زمن التشظّي.


"المبالغة"، التي انتقدها البعض في تبجيل شهادة الساروت دون سواها، ليست سوى رغبة ملحَّة في استعادة الثورة المصادَرة، من خلال رمزٍ شارك بفاعليةٍ في الحقبة السِّلْمية، وإعادة إنتاجها ضمن شروطها المدنية التي قُيّض لسيرة الساروت امتلاكها.


وكما سبق لي أن كتبتُ قبل سنوات، في مقالة عن الساروت عنونتُها بـ"حكاية حارس المرمى الذي تحوَّل إلى قلب هجوم" (راجع كتابي "حكّ الصدأ")، فإنَّ حكاية هذا الشاب هي حكاية الثورة السورية نفسها. فقد كان سِلْمياً حين كانت الثورة سِلْميةً، وحمل السلاح حين حملت الثورةُ السلاحَ، وجمحَ تجاه الأيديولوجيا الدينية حين جمحت الثورة. بمعنى أنه كان مرآةً للثورة وأحوالها.


وبهذا المعنى كان لصيقاً بها وبناسِها. وبهذا المعنى أيضاً كان نقيضاً لكلّ طفيلياتها السياسية ممن توافق الشعب على تسميتهم بـ"جماعة الفنادق"، والذين تعاملوا مع الثورة كفرصةٍ للجاه والسلطة والثروة.


إنَّ الشعور بالحاجة إلى الرمز هو شعور أصيل في زمن المنعطفات الكبرى في حياة الشعوب. وربما بسبب فشل النخب السورية في تقديم مثل هذا الرمز، اختار السوريون له بطلاً شعبياً.

*من كتاب "زمان الوصل"
(298)    هل أعجبتك المقالة (292)

معاوية الأموي

2019-06-17

لقد جاء استشهاد الساروت في لحظةٍ تشهد فيها الثورة السورية تفكُّكاً رهيباً، حتى يكاد أن يُخيَّل للمتابع بأن ما بقي منها لا يتعدَّى الركام. أحسنت الوصف.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي