أجل فاجأني، ولن أدعي معرفة الغيب وأقول، لم يفاجئني وقوف الكثير من المثقفين والعلمانيين المحسوبين على الثورة، أو إلى جانب الإنسانية كحد أدنى، وقوفهم على ضفة الشماتة والتشفي بمقتل "عبد الباسط الساروت"، أو تجاهل بعضهم هذا الحدث الذي أعتقده جللاً، ومتابعة، قبل أن يجف دم الساروت، نكاتهم وتحليلاتهم ونقدهم، وكأن سوريا وثورتها، لم تصب بمقتل وتفقد مناضلاً بحجم أمة.
ولا أخفيكم أني أجهدت نفسي بالبحث عن الأسباب، خاصة، لمن هم على ضفة الثورة وحقوق الشعب، ومع إسقاط الطاغية بشارالأسد.
ووصلت فيما أعتقده ملامح حقيقة، أن جلّ هؤلاء، إنما اتخذوا مواقفهم، بما فيها التجاهل، بذريعة أن الساروت إسلاموي قاتل ببعض مراحل كفاحه، إلى جانب أصحاب اللحى المستعارة.
وهذه حقيقة، أو بصيغة أدق، بعض الحقيقة، إذ تقتضي الثقافة ويملى على المثقف، ألا يكون "حماراً" أو ببغاء، ينقل ما يسمعه أو حتى يراه، دون البحث والتحليل، وأيضاً، عدم سلخ الحدث عن ظرفه الزماني والمكاني.
وهنا لا أشير إلى ما حاول البعض تصيّده، بأن منطلق الساروت النضالي، إنما كان انتقاماً أو ثأراً لمقتل ثلاثة من إخوته وقتذاك، إذ إن الساروت وحتى استشهاده، لم يأت مرة، ولو ذكراً، على استشهاد أهله الذين بلغوا 12 شخصاً من أسرته "خمسة إخوة وأب وأربعة أخوال وابن أخت وابن أخ" بل آثر وعلى مدى ثمانية أعوام، إلباس مسعاه حلة النضال الوطني لتحرير شعب سوريا، كل سوريا، من ظلم واستبداد عصابة الأسد.
بل سأشير لظروف المعركة والأمر الواقع، التي دفعت الساروت دفعاُ، للمبايعة على قتال جيش الأسد حصراً وفقط، وليس مبايعة على عقيدة وفكر أو ايديولوجيا، أو قتال ما يراه المتطرفون، خوارج.
هذا إن لم نقل إن تنظيم "داعش" وقتذاك لم يكن معروفاً، بحمص على الأقل، بل ولم يكن له أي تواجد هناك، أو أن محاصري حمص الممنوعين من الأكل، لا يعرفون شيئاً عن ذلك التنظيم السكين.
وهنا لا أرمي جزافاً كما فعل المتثاقفون، بل سآتي ببعض وقائع، ويمكن للذي تهمه الحقيقة، أن أزوده بتسجيلات وأقوال شهود ووثائق.
يعي ويذكر السوريون، أن الثاني من نيسان 2014، وبعد حصار ثوار حمص ومدنييها لنحو 690 يوماً، أوصل المحاصرين حتى لأكل أوراق الأشجار والقطط وعلى مرأى ومسمع العالم، خرج الثوار من حمص القديمة بنصف أسلحتهم الثقيلة وأسلحتهم الفردية، مقابل الإفراج عن ضابط روسي ومقاتلين إيرانيين محتجزين لدى "المعارضة"، و(هذا الاتفاق بحد ذاته، موضوع بحث وتحليل، سواء لمن يحكم سوريا منذ ذاك، أو كرمى لمن يقتل الأسد السوريين ومقابل من يمنحهم حق الأكل والحياة).
وقتذاك أو بعده، وعلى مدى تسعة أشهر، لم يقم ثوار حمص سوى بمعركتين صغيرتين، ما دفع الساروت بمن معه منفردين "كتيبة شهداء البياضة" للقيام بهجوم ومعارك وخاصة بعد تمركزهم قرب الطريق الدولي.
في تلك الآونة، جاء الساروت رجلاً ممثلاً لتنظيم الدولة، أو ادعى ذلك، يطلب المبايعة على قتال النظام، نؤكد مقاتلة النظام وليس سواه، مبايعة قتال وليس فكر ونهج وإيديولوجيا، فبايع الساروت وقتذاك، لكنه وحينما بدأت تتكشف مرامي من طلب المبايعة وتتكشف أهداف تنظيم الدولة أو سمع بها وعرفها الخارج من الحصار، خرج قائد كتيبة شهداء البياضة "الساروت" وبعد شهرين فقط، وبتسجيل مرئي علاني بتاريخ 31-8-2015، يؤكد عدم مبايعته أو انتمائه وكتيبته، لأي تنظيم.
وخرج "الساروت" قبل ذاك أيضاً، وكأنه يعلم أن ثمة مرجفين سيرفعون هكذا أسلحة بوجه صدق نضاله، بفيديو ثان قال خلاله حرفياً "هذه الرسالة للجولاني والبغدادي: نحن لا نرضى بالطائفية، وديننا لا يرضى أن نقتل أطفال "علويين، دروز، مسيحيين، أكراد أو سنة" ثورتنا ضد عصابة الأسد، النظام هو من يذكي الفتنة..."
ولأضف من الشعر بيتاً لهؤلاء، أن لواء الحق بحمص، رفض انضمام كتيبة الساروت ومجموعة الصديق التي كان يقودها الشهيد، أبو أسعد الشركي، للواء بعذر أن هؤلاء غير منضبطين شرعياً...وإن لم يقتنع المتصيدون، فليسألوا، ترى من اعتقل الساروت بالمنفردة بإدلب لمدة 37 يوماً ومن كان يهدده؟!!!
وقتها قد يعلمون وبالدليل، لماذا كان عبد الباسط، أشبه الجميع بالثورة السورية، وعبر جميع مراحلها وتقلباتها، بل والأكثر وقوفاً بوجه أي وكل من يوجه بندقيته إلى غير المحتلين وميليشيات الأسد، وبهدف أعلنه وكرره، وهو حرية كل السوريين، وربما باستشهاد الساروت وهو يقاتل ضمن جيش العزة، واختياره حتى اللحظة الأخيرة "الجيش الحر" رغم الوعيد والتهديد، تأكيد إضافي لأي ساع إلى الحقيقة.
ولكن، أليس من أسباب، غير الاتهام بالأسلمة، دفعت كثيرين للتشفي بمقتل المناضل الساروت ومحاولات التشويش والحيلولة دون تكريس رمزيته؟!
أعتقد، وبعد الذي سمعنا وقرأنا وشاهدنا، أن ثمة من يحرّم على بسطاء سوريا ونبلائها، أن يتقلدوا أوسمه الرمزية أو البطولة والوطنية، فتلك الصفات، حكراً على شيوخ وزعماء مناطقهم وآل الأسد، فعقل "طائفية النخبة المنظمة" الباطن المستمد من حقد حكايا الجدات ووهم التاريخ المزيّف، يمنعهم من الاعتراف ببطولة الآخر، حتى وإن قضى، خلال الدفاع عن قضاياهم فيما هم يتسكعون أو يخونون.
وربما، ثمة أسباب أخرى، منطلقها "الغيرة" من ميته وجنازة يشتهيها الرؤساء، خرج خلالها النساء والأطفال والرجال، بتركيا أكثر من سوريا، بدافع المحبة وليس جراء تعميم وسياقة أمنية، ليبايعوا الساروت على الرمزية ويبادلوه التضحية والرجولة، بالمحبة والدموع، وعمت الصلاة على الغائب أصقاع الأرض.
ولعل ما بعد الموت، زاد من تأجيج الغيرة لدى هذه الشريحة التي تحسد، حتى الميت على ميتته، إذ أحيا استشهاد الساروت النخوة والرجولة والثورة، وأعاد توصيف الحب وتعريف سوريا.
نهاية القول: ربما لا طائل من الرد على كل من خرج، حتى عن الخط الإنساني، خلال تجاهله أو تشفيه بمقتل الساروت، إذ لو يمتلك هؤلاء، أدنى درجات الرجولة والشعور الإنساني، لبكوا دماً، على الأقل، على أم فقدت بنيها وزوجها وإخوتها وحفيديها، ولم تزل واقفة كنخلة تحض على الكرامة والحرية ومتابعة طريق شهدائها.
لذا، الرد برأينا، على كل أعداء نيل الشعوب حريتهم وكرامتهم، المنخرطين بمشروع تهشيم الشخصيات الممنهج، ليستمر السوري بشعوره بالدونية جراء الانتماء لمجتمع، يريدونه سافلاً جاهلاً ودونما هدف، حتى نصل إلى الاضمحلال أو البقاء ندور بفلكهم، الرد هو السير على هدى نضال الساروت، وعلى مستويات عدة، وربما بمقدمتها، صياغة مشروع وخطة وهدف، لتشكيل مجلس ثورة مؤسسي سوري جديد، مستغلين الصحوة وتحريك دم الثورة والثوار، التي أوجدها استشهاد الرمز السوري، عبد الباسط الساروت.
*معارض سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية