أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في النكسة.. لا أصدق سوى حكايات جدي*

أرشيف

أصدق حكايات جدي وأبي عن السادس من حزيران 1967 لأنني أوقن اليوم أن حكايات الناس هي الحقيقة وحدها، وأما ما تقوله الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، والمؤرخون، وكتب المدرسة ما هي إملاءات السلطة والمنتصرين أو المهزومين الذين أُلبسوا أثواب النصر.

اليوم يستذكر أبناء الجولان حكايات أهاليهم عن خمسين عاماً مضت، ويصدقونها مثلي فقد رأوا بأم أعينهم كيف تفبرك الحكايات، وتصبح الهزائم انتصارات، والجرائم إحقاقاً للحق، والقتل القصد دفاعاً عن النفس، والقمع قمة الوطنية، وتكميم الأفواه اسكات للخونة، وطالبو الحرية إرهابيون ومتآمرون. في مثل هذا اليوم بالضبط هرب الجنود بعد أن أبلغوا قرار الانسحاب الكيفي، وسمعوا أن الجبهة سقطت، ومدينة القنيطرة صارت بيد الصهاينة، ومعهم هرب الأهالي الذين أصبحوا بعد أيام نازحين يحلمون بالعودة.

جدي الذي مات وهو يحلم بقبر صغير في قريته (عيون حور) التي تبعد كيلو مترات قليلة عن مدينة القنيطرة، وصمد أمام جهاز (الراديو) القديم حتى وفاته بانتظار أن تذيع إذاعة الاحتلال أسماء الأسرى لديها على أمل في عودة ابنه الشهيد عبد اللطيف حياً..جدي هذا مات غريباً في بيت وهبته إياه جمعية خيرية في ريف دمشق، وظل يردد طوال حياته قصص هروب الجنود وتركهم لسلاحهم غنيمة دون حرب.

والدي لم يكن أكثر حظاً من جدي، فقد مات غريباً يروي الحكايات عن بلدته الصغيرة، وبحيرة (مسعدة) التي شكلتها فوهة بركان خامد، وخروجه الأخير بعد عشرة أيام من النكسة غير مصدق أن كل تلك البلاد تسقط بهذه السهولة، وأما بقية عمره في النزوح فقد عاشه لبناء بيت لا ينازع أبناءه فيه أحد، وأن يتابعوا دراستهم كأحد أحلامه المخصية التي هشمها الفقر والاهمال، وأن يترك لهم قليلاً من الحكايات التي تحافظ على حلمه الذي سقط بقرار طامع للسلطة أوصلهم لأن يكونوا نازحين في بلادهم.

كل الذين خرجوا من الجولان هاربين عام النكسة تحولوا إلى نازحين في وطنهم يشار لهم بالبنان، وأعوان نظام البعث باتوا ينشرون اتهامات الخيانة بحق هؤلاء على أنهم باعوا وطنهم، وأما عقل البعث الفاسد فقد أراد من هؤلاء أن يقتنعوا بأنهم نازحون لا وطن لهم، وساهم إعلامهم في إغفالهم من أعداد السوريين، وأن أبناء الجولان هم فقط أبناء القرى الخمس التي بقيت تحت الاحتلال.

في تجمعات الشتات في الوطن كان على النازحين أن يكونوا مواطنين وفق الأجندة الطائفية والطبقية التي نفذها النظام في القنيطرة وتجمعاتها وتلك التي توزعت في بقية المحافظات المجاورة، وكان عليهم أن يكونوا في مؤسسات الدولة الساقطة ممثلين وفق هذا التوزع درزي وعلوي وسني وبدوي وحضري وشركسي.

في سنوات الحرب الأخيرة شهد أبناؤنا نحن الجيل الثاني من النازحين نزوحاً جديداً لكنه خارج الوطن برمته، واليوم يبتعد حلم جدي وأبي أكثر من أي وقت، ولكنني ما زلت لا أصدق سوى حكاياتهم.

*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
(237)    هل أعجبتك المقالة (258)

2019-06-06

صدقت وصدق والدك وصدق جدك وصدقت حكايا الناس.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي