لو قُسِمَ لي عمرٌ كالعمر القصير الذي عاشه الصديق الاستثنائي الراحل سمير قصير (45 سنة) لبقيَ لي أقلّ من ثلاث سنوات في هذه الدنيا.
2 حزيران 2005، كنتُ أستقلُّ أحد الفانات الصغيرة الذاهبة إلى ساحة الشهداء في بيروت حيث يقع مبنى جريدة "النهار"، حين سمعتُ الركَّاب يتداولون خبراً عاجلاً عن اغتيال أحد صحافيي الجريدة. وعلى الرغم من أني أعرف مدى التهديد الذي كان يتعرَّض له سمير قصير، إلا أنَّ اسمه –ولسببٍ مجهول- لم يخطر في بالي في تلك اللحظة، بل خطرت لي أسماءٌ آخرى.
لقد كنتُ مستعداً للكتابة عن كتبه، وليس للكتابة عن موته!
وفي لحظةٍ طُبعتْ بطريقة الكَيّ في الذاكرة، كان جواب أحد الركَّاب عن سؤالي حول اسم الصحافي المغدور: "سمير قصير"!
إذا كان من لحظاتٍ مفصليةٍ في حياة المرء ليتحدَّث عنها، فتلك اللحظة كانت تحمل ذلك المعنى في حياتي. كانت لحظةً شخصيةً بقدر ما كانت لحظةً عامَّةً في حياة البلد يومذاك. وعلى العموم كانت اللحظة التي بدأتُ فيها بتغيير رأيي حول قرار العيش والبقاء بشكل نهائي في لبنان.
لقد اكتشفنا، كأصدقاء لسمير قصير، بأنَّ بين قراء مقالاتنا قراءً غير عاديين. قراء يُجيدون استعمال المتفجّرات وتفخيخ السيَّارات. قراء يُدقّقون في الكلمات وبين السطور ويحدّدون مصائرنا، ككتَّابٍ، بناءً على ذلك التدقيق.
وللحقّ كان سمير قصير غير غافلٍ عن هذه الحقيقة، وقد جاهر بها في مناسبات عديدة، ولكنني شخصياً كنتُ أشعر أنه في قرارة نفسه غير مصدّق بأنَّ تلك التهديدات جدّية بما فيه الكفاية لتُنهيَ حياته.
الكتَّاب السوريون الذين عرفوا سمير قصير تعاملوا معه ككاتب سوري، لشدَّة اندفاعه في الشأن السوري وإيمانه العميق بأنه لا تغيير جذرياً في لبنان من دون تغيير جذري في سوريا. فقد آمن سمير قصير بمقولة "المصير المشترك" بين البلدين، ولكن بشكل أعمق بكثيرٍ من الطرح الميكافيلي الذي استخدمه نظام الأسد للسيطرة على لبنان.
أبوه الفلسطيني وأُمُّه السورية ومسقط رأسه اللبناني جعلوا منه خلطةً شاميَّةً نجحت في الدمج، بذكاء وإخلاص، بين القضايا المركزية في بلاد الشام: تحرير فلسطين وديموقراطية سوريا واستقلال لبنان.
كان سمير قصير، ومعه الياس خوري وعقل العويط وجهاد الزين ومحمد أبي سمرا وعباس بيضون وبلال خبيز، من الذين أعطوا جريدة "النهار" بُعدها الثقافي العميق والمؤثّر، قبل أن تسقط في فخاخ الإسفاف والعنصرية.
وفي ذكراه الرابعة عشرة، إذا سُمح لي بالحديث عن الجانب الشخصي، سأقول بأنَّ سمير قصير كان أخاً حقيقياً لي بكلّ ما للكلمة من معنى. وكان -مع الشاعر الكبير الراحل أُنسي الحاج- من أوائل الذين شجَّعوني واحتضنوني في بداياتي، وقد بلغ تشجيعه لي إلى درجة أنه قام بتكبير إحدى مقالاتي وعلَّقها في مكتب زوجته الإعلامية المعروفة جيزيل خوري.
كانت خسارة سمير قصير خسارةً شخصيةً لدى الذين عرفوه عن قرب، ولم يكتفوا بقراءة عموده الصحافي أو كتبه ومؤلَّفاته. لذلك كلَّما أردتُ أن أكتب شيئاً عنه، في ذكراه، أجدني قد وقعتُ تحت تأثير العاطفة والكتابة الوجدانية، وانجذبتُ –بقلَّةِ حيلةِ الفراشة- إلى الشعر.
*معارض سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية