أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"قليلاً من الأصول يا..!".. علي عيد*

أرشيف

سمحت لنفسي أن أقتصّ من عنوان رسالة الشاعر السوري فرج بيرقدار في مهرجان "باسّا بورتا العالمي" في بروكسل يوم 25 آذار 2011، إذ كانت تُعنى بالبشر المهاجرين، وكان عنوان رسالة العتب الموجهة إلى أوروبا "قليلاً من الأصول يا أصيلة!".


وهنا لا أوجه رسالة، بل أقول ـ فقط أقول ـ كم تمنيت أيتها البلاد العربية أن أضيف لنهاية العنوان كلمة "أصيلة"، إلا أن بلاداً باتت تطرد أبناءها لا تعرف الأصول.


يتنفس السّوري اليوم على وقع قرار إغلاق المخيمات في لبنان، وينام على رسائل بعض العائلات التي يتم طرحها في الصحراء تارة في الجزائر وأخرى بين الأردن وسوريا، ويغصّ دون طعام بأخبار من يموتون بلا بكّاءات ولا حملة نعوش في أقاصي الأرض.


كل ما سبق ربما لا يكون مسؤولية العرب، أو الجوار، لكن لم يعد مفهوماً أن يكون السوريّ المتعب موضوع "المراجل" السياسية كلّما تبارز اثنان على عضوية مجلس بلديّ في تركيا، أو مقعد برلمانيّ في أوروبا، فتلك حكاية سخيفة وباهتة، ولا يدفع ثمنها إلّا الضعفاء ومنهم السّوريون.


لم يعد في بعض بلدان العرب مكان إلا لأرباب المال والمستثمرين، وكأن البشر يعتقدون أن بالمال وحده تقوم الحضارة، فكيف يكون السوريّون الهاربون من الموت مكان ترحيب ومعظمهم غادر تاركاً المال وفاقداً الولد.


وأكتب هنا رأيا دون انزياح عاطفي نحو بلد عربي عن آخر، وإنما لأنني قرأت خلال يومين متتاليين أخباراً عن عزم دولة عربية إصدار قانون الفيزا الدائمة خلال ثلاثة أشهر مقابل الكثير من المال، فيما تصدر دولة أخرى قرار نظام الإقامة الدائمة "البطاقة الذهبية" الذي يجلب عشرات المليارات.


كنت أتساءل؟؟.. ماذا بعد كلّ هذا المال، ولماذا تغلق الأبواب على المهاجرين من العمّال والضعفاء، فيما نبي تلك الأرض هاجر هاربا نحو المدينة، وأبناء تلك الأرض ذهبوا إلى الشام سادة لا غرباء ولا مهاجرين، وانتقلوا منها إلى أوروبا مرورا بشمال أفريقيا.


يظهر لي أن القصّة لا تتعلق بالسوريين وحدهم، وإنما برسالة جاحدة لمن يحكم العالم اليوم، وأجزم أن بعض حكومات المنطقة باتت مكلّفة بجمع المال بالدرهم والدينار وتسليمة للدّول الكبرى بالحمل والقنطار.


غريب أن تترافق خطط جذب الأموال بخروج جماعي للعمالة البسيطة كالحرفيين وعمّال البناء والتنظيف، وهو أيضا ليس خياراً خاطئاً عندما يتعلق بتشجيع مواطني تلك الدول على العمل بالمهن البسيطة، لكن بالضبط هذا ما لم يحصل في أوروبا، ففي فرنسا مثلاً لا توجد خطّة لإبعاد أصحاب المهن، بل يتم تشجيعهم واستقبالهم طالما أنهم وصلوا أراضيها، والهدف الصعب عندهم هو استبعاد من لا يعمل.


يشكل غير الأوروبيين الكتلة الأكبر بين عمال البناء والتنظيف والمهن المتعبة، ويصبح هؤلاء شيئا فشيئا جزءا أصيلا من المجتمعات الأوروبية، ويصبح أولادهم لاحقا أطباء ومهندسين وعمّالا ومفكرين أيضا... وهذا ما يحدث للمهاجرين عامة والسوريين خاصة، إلا أن السوريين بالتحديد لا يبحثون فقط عن مكانهم العلمي والاجتماعي في الغرب، وإنما عن أرواحهم التي تركوها وراءهم، وعن هويتهم، عن قبول تلمّهم، وجنازات يحملون فيها على أكتاف أولادهم وأبناء عمومتهم... ولو كان الخيار للسوريين أو معظمهم السفر إلى أوروبا أو البقاء في دول عربية تحترم وضعهم وتساعدهم على الدخول في دورة الإنتاج والانخراط في حياة طبيعية فيها، لما هاجروا.


جشعٌ وبشعٌ هذا العالم وحكوماته التي تفرش البحر بالسجاد الأحمر للأثرياء، وتحرم الغريب ـ القريب حتى من مدارسها العمومية متهالكة المناهج.

هل تصدق أيها القارئ الكريم أن دولا عربية تدعم قوى عسكرية تحتل أرضك وتغلق عليك طريق العودة إلى قريتك، وهذه الدّول تبكي على المنابر الدولية نفقاتها على بعض أبناء بلدك، ثم تحتار في إيجاد طريقة لطردك أو عدم استقبالك.. أي عالم هذا الذي نعيش فيه؟.


أما جارتنا أوروبا.. فصعب أن تتفهمي كيف يستحي رجل في بلادنا أن تطعمه امرأة غريبة أو تدفع عنه المال.. وطالما أن الأمر حصل وها أنت تدفعين، فترّفقي لأننا عادة ما نريد الدّين في بلادنا حتى بدون خططك للاستثمار في أولادنا، وهكذا هم أبناء الأصول يا "أصيلة".

*من كتاب "زمان الوصل"
(186)    هل أعجبتك المقالة (198)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي