أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ثلاثة مشاهد للطيب تيزيني*

تيزيني

ثلاثة مشاهد تختزنها ذاكرة القلب للراحل الطيب تيزيني الذي بكى سوريا قبل أن تبكيه، الأول في ‏تسعينيات القرن الماضي عندما استطعت -بشق الأنفس- دخول مدرج جامعة دمشق في الحلبوني ‏لحضور مناظرة بينه وبين الراحل الشيخ محمد سعيد البوطي مدفوعا بفكرة المناظرة فهي حالة غير ‏مسبوقة في سوريا، أكثر من أكون مدفوعا بعنوانها وكان عن "الاجتهاد والنص القرآني".‏

غص المدرج بالحضور، كان يتسع لنحو ألف وربما أكثر بقليل، بينما تجمهر في الخارج ما يزيد ‏من خمسة آلاف على اقل تقدير كلهم يريد الدخول، وجل من دخل ومن بقي كان من "أنصار" ‏البوطي، بدا ذلك واضحا من ملابسهم، ومن أصوات التكبيرات التي ضج بها المدرج، وما إن دخل ‏الرجلان حتى ازدادت التكبيرات قوة، لتبلغ أوجها مع بدء البوطي بالكلام معلنا تأجيل المناظرة، ‏مثلما أعلن أن هذا الحضور - واعتقد أنه قصد الحضور المؤيد له- بمثابة انتصار للحق، هذا هو ‏المعنى الذي تختزنه ذاكرتي لما تلفظ به الراحل، فلا أريد هنا أن أقوله ما لم يقل، أما التيزيني فلا ‏أعتقد أن أحدا، ربما باستثناء من أتيح له الجلوس في الصف الأول، سمع ما تحدثه به، فالتكبيرات ‏طغت على أي صوت، وبالمحصلة ألغيت المناظرة وأعيد "إنتاجها" تلفزيونيا.‏

أما المشهد الثاني الذي أتاحت لي الظروف أن أشاهد فيه الطيب تيزيني، فكان يوم اعتصام أهالي ‏المعتقلين في ساحة المرجة يوم 17 آذار 2011، يومها لم يكن الحضور لا بالآلاف ولا بالمئات، ‏بل بالعشرات جلهم من النساء والأطفال وبضعة صحافيين، لم يكن في ذلك اليوم أصوات تكبير، ‏ولم يكن للزي "الديني" وجود، يومها حضر الطيب التيزيني، حضورا لم يطل، إذ انقض عليه ‏عناصر الأمن، حاول احد الزملاء تنبيههم إلى أن هذا الرجل هو التيزيني، لم أسمع جوابهم، لكنه ‏لم يخرج عن سياق مفردات القاموس الأمني من قبيل "انقلع ولا..".‏

الثالث، كان خلال اللقاء التشاوري في مجمع صحارى، وكلفت حينها من جريدة الوطن بتغطية ‏فعاليات اللقاء، وخلال استراحة للمشاركين وكان الراحل التيزيني من بينهم، ذهبت إليه لأخذ ‏تصريح خاص، بادرته بالسلام والسؤال عن حاله ثم طلبت منه تصريح، سألني لأي وسيلة فأجبته، ‏ثم قلت له مغلفا كلامي بطابع المزاح الخفيف، "دكتور قبل ما انبلش تسجيل، في أمل؟" فرد علي ‏‏"لهجتك من درعا؟" قلت له نعم من درعا، تحدث والدمع بعينيه عن شباب التقاهم خلال الفترة ‏السابقة لذلك اليوم، ثم قال "لا ما في أمل.. ما بدهم" قلت له "لماذا حضرت إذاً؟ّ" فأجاب بصوت ‏متهدج "لأني شايف انو رايحيين لدم كتير وما بدي يجي يوم وقول ياريتني شاركت كنت خففت من ‏هالدم او منعته".‏

رحل الطيب تيزيني لتخسر سوريا قامة قلما يجود الزمان بمثلها، وهنا لا أشير إلى منتج فكري ‏لست بمستوى يؤهلني لتقييمه، بل أشير إلى المثقف "النخبة"، القادر على أن يصدح بالحق ويكون ‏بين الناس ومنهم..‏

*حسين الزعبي - من كتاب "زمان الوصل"
(224)    هل أعجبتك المقالة (229)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي