كلَّما رأيتُ صورةَ طعامٍ قضى أصحابه قبل أن يتناولوه، عادت بي الذاكرة، سنوات وسنوات، إلى تلك الأمّ المفجوعة التي قضى ولدها بحادث سير، وكان محور رثائها له يدور حول أنه قد مات وهو جائع.
كان السامع لتلك الأمّ يكاد يظنُّ بأنَّ الفاجعة ليست في موت الولد بحادثٍ، بل في كونه قد مات جائعاً.
للحظةٍ اعتقدتُ، وأنا أسمع كلماتها يومذاك، بأنَّ الحادث لو تمَّ بعد فترة الغداء كان سيكون أقلّ ألماً. وبأنَّ المعدة الفارغة مع الموت تمنح الفجيعة قسوةً مضاعفةً.
***
هذه الذكرى القديمة طالما استدعتها صورٌ جديدةٌ، ملأت وسائل الإعلام، منذ أن اتَّخذ النظام في سوريا من أسلوب قصف المدنيين منهجاً.
الصحون المليئة بالطعام وغبار القصف، مليئةٌ أيضاً بفكرة الغياب. غياب من ماتوا وهم جوعى. غياب من أعدّوا المائدة لأنفسهم دون علمهم بأنهم قد أعدّوها للكاميرات ونشرات الأخبار.
في صورةٍ، تكون المائدة فقيرةً جداً (زعتر وزيت وشاي) إلى درجة أنَّ الفقر والموت فيها يتسابقان لارتداء عباءة الغبار، أو "يتعاوران مُلاءةَ الـحُضْر" بالتعبير البديع للخنساء.
وفي صورةٍ، تكون المائدة "عاطفيةً" جداً (ورق عريش) إلى درجة أنَّ الأصابع النسائية التي لفَّت تلك اللفافات من ورق العنب تكاد تكون مرئيةً.
لوهلةٍ، تفكّر في أن تمدَّ يدك لتمسح الغبار عن الصحون في الصورة.
ولوهلةٍ، تتخيَّل أطياف الغائبين وهم يتحلَّقون حول المائدة، مُسمّين باسم الله قبل الشروع في تناول الطعام.
ولو طُلِبَ من أحدٍ منَّا وضع عناوين لتلك الصور التي غطَّى فيها غبارُ القصف صحونَ الطعام، لكان أوَّل ما فكَّرنا فيه هو أنَّ أصحابها قد ماتوا وهم جوعى، وأنَّ صحونهم البسيطة تحوَّلت إلى أوعيةٍ للمأساة، وأنَّ الأمّ وهي تُعدُّ المائدة بصمتٍ لم يكن ليخطر في بالها أنَّ لفافاتها، الجميلة والمتقنة الصنع، لن تكون صالحةً للأكل، وإنما للبكاء.
**معارض وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية