في السياسية كما في الجغرافيا وحتى الحياة الاجتماعية، يبدو السوريون ضحايا ظاهرة التفكك التي تنعكس على سلوكهم وشخصياتهم الفردية.
منذ عام 2011 بدأت أفواج بمئات الآلاف تخرج من بيوتها مكرهة، نزوح في الداخل، وهجرة إلى الخارج، رافق هذا قصص تشبه أحيانا حكايات "ألف ليلة وليلة" كما يحصل في أوروبا، نساء طلّقن الرجال بسلطة القانون الغربي لأن بعض المال والقرار وقع في أيديهنّ، ورجال لم يستطيعوا إعادة ضبط "ميكانيزمهم" البيولوجي، وبقي الطربوش على رأسهم في مجتمع يتزوج فيه رجال دولة من أصدقائهم الرجال، ولم يتآلفوا مع نظرية الرجل يأتي رابعاً بعد الطفل والمرأة والكلب.
عاينت في بضع سنوات عشرات القصص الفردية للسوريين، أسهلها الطلاق، وليس أصعبها حالات انفصام الشخصية والجنون، ويبدو واضحاً أن السوريين مقابل نجاحاتهم في بعض البلدان، فهم يعانون أزمة استعصاء هضم ثقافة الآخر، وهذه الأخيرة تلعب فيها عدّة عوامل، منها "الفوبيا" من السوريين و"داعش"، ومنها الصراعات السياسية في دول اللجوء على موضوع المهاجرين، أضف إلى جراحات السوريين أنفسهم، إذ معظمهم ترك وراءه الأهل والبيت وليس من وسيلة لاستعادة الماضي، الأمر الذي يدخله صراعا يومياً مع نوستالجيا (الاشتياق للماضي) قاتلة.
ليس بعيداً عن المنطق أن تنتج الأزمة السورية إنسانها المفكّك، إذ تنتشر في الحروب والصراعات المزمنة حالة من الفقر، وتتشكل بيئات جديدة تقوم على صراعات صغيرة يغذّيها الصراع الكبير.
وأمام انفتاح الأطفال السوريين على العلم والمعارف في مدارس الغرب، وكذلك تخلّصهم دفعة واحدة من السلطة الأبوية، فإن هؤلاء الأطفال ليسوا مشروعاً سورياً بالمطلق، لأنهم أولاد الحياة التي يعيشونها، وربما تساعدهم ظروف اجتماعية في مرحلة لاحقة على الاتصال ببلاد آبائهم، أما بالنسبة لمن بقي داخل سوريا أو في دول الجوار، فإن نسبة كبيرة بينهم عاينت وتعاين مشهداً مختلفاً قوامه التطويع وتسطيح العقل وإخصاء الشخصية سياسيا واجتماعيا، أضف إلى مئات الآلاف من الأطفال الّذين تحوّلوا إلى مقاتلين، وهم جزء من مشروع الصراع الّذي ينذر توقفه بانتهاء حياتهم ودورهم، وهذه مشكلة عويصة يجب التفكير فيها مليّاً، وإلا فإن هؤلاء الأطفال قد يكونون يوما أحد موانع وقف هذا الجحيم.
في مثل هذه الحالة من تفكّك الذّات السورية بصورتها الجماعية والفردية يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور، ولا بالمدى الزّمني لإعادة ضبط الساعة وفق مصلحة شعب أو دولة، خصوصاً وأن العوامل الخارجية تتداخل بشكلٍ مرعب، بل ويصبح مصير البلاد مرهونا لصراعات تخوضها الدول الكبرى.
ما الحلّ؟..
لا يبدو من تجارب التاريخ الحديث أنه من الممكن البناء على الخراب نفسه، حتى ولو كانت المرحلة المقبلة خراباً من نوع آخر أشد، ففي رواندا والبلقان مثلاً، لم تتوقف الحرب بالنوايا الحسنة، ولا لأن الخير انتصر على الباطل، بل توقفت لأن هناك قوى عظمى قررت أن توقف الحرب وتحاكم القتلة، وهناك الامبراطوريات القاتلة التي لا يحاسبها أحد كما فعل الروس للشيشان في غروزني.
هذا التحليل يعني أن على السوريين تحمّل جرعة جديدة قاسية من الصراع وتبديل البنادق على الأكتاف، وأن حلّ المشكلة الاجتماعية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراع على المنطقة.
يستحسن أن يكون هناك نضال وطني على جانبين، الأول إعادة تأهيل جيل سياسي للدخول في مفاصل اللعبة السياسية كطرف محلّي قادر في لحظة من اللحظات على اختطاف المقود، ومن جانب آخر ظهور بوادر اجتماعية أو أممية لتأهيل السوريين نفسيا واجتماعيا أو دمجهم في مجتمعاتهم الجديدة، أو الحفاظ على لياقتهم لحين عودتهم إلى بلادهم.
وإذا لم يكن متيسراً ما سبق، ربما نجد في السوريين المهاجرين للغرب نسخاً متعددة تجسّد من حيث المبدأ رواية "المريض الإنكليزي" لصاحبها مايكل أنداتشي، السيرلانكي المولد، الهولندي الأصول، الانكليزي المهجر، الكنديّ الجنسية، أما بالنسبة للجوار فالفلسطينيون شاهد حاضر، فالجماعة يحلمون بالعودة منذ سبعين عاماً وليس ثمة من يساعدهم، وأكثر ما فعله الإخوة أنهم عقدوا لهم ألف قمّة عاديّة واستثنائية.
في أذنك عزيزي القارئ: هناك سوريون ينعمون بالتفكك ويتمنون ألا يصلح الحال.
**معارض وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية