أمازلتم مثلي تذكرون صوته؟
صوته عالقاً في رأسي، طفل لما يبلغ الثامنة بعد، خرج من تحت الأنقاض، دماؤه تختلط بتراب منزله المتهدم تواً، يصرخ باكياً، ليس من الألم، ولا من الجروح البادية على جسده الصغير، يصرخ بكلمة واحدة "إخوااتي".
أصوات الأطفال المصابين... كلهم، صور الأطفال القتلى... كلها، أنين من تيتم منهم، من قلبت طائرةٌ...أو قصف.. أو هاون حياتهم إلى الأبد.
مَن يخرج هذه الأصوات من رؤوسنا؟ ومن يخرج هذه الذكريات من رؤوس أطفالنا؟
سنوات ثمان ونيف، كانت كفيلة بخلق ذكريات واحدة موحدة لكل أطفالنا.
أطفالٌ ولدوا في الحصار، وقضوا جل طفولتهم في الملاجئ، وذاقوا طعم الجوع والموت والتهجير والقهر باكراً، فأي معنى يبقى للطفولة وأي شكل سيكون لمستقبلهم.
أي وطن هذا الذي يتلذذ بقهر أطفاله؟
الوطن.. المكان الذي يحيا فيه البشر ويعشقونه، ليكون الدفاع عنه شرفاً، والتضحية في سبيله عن سبق الإصرار، والعيش لأجله أسمى أنواع الحياة.
أطفال سوريا الذي ولدوا في الحرب، لم يعايشوا من الوطن إلا الجوع، ولم يشعروا به إلا مكاناً خطيراً، يصبح الخروج منه حلما.
من كان في عمر العاشرة مع بداية الحرب، بلغ اليوم الثامنة عشر، بلغ اليوم مبلغ الرجال بحكم العسكر، طفل بلا تعليم، قضى جل حياته ينتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان، طفل في ظل البحث عن لقمة عيش، لم يهتم ليعرف، مَن على حق ومَن على باطل، لا يهمه سوى أن يبقى بخير، ينام حالماً بدراجة أو حذاء جديد وربما تقلصت أحلامه لتقف عند وجبة شهية واحدة، هذا الطفل ذاته يقتاد اليوم للخدمة الإلزامية.
هل يقتنع هذا الطفل بهكذا وطن؟ أو بقضية سيد الوطن ليدافع عنها؟
هل يعرف هذا الطفل من يقاتل؟ ولماذا يقاتل؟ أو حتى كيف يقاتل؟
جل الأطفال الذين في سن المدرسة، حرموا من التعليم بعد أن خرجت مدرسة من كل ثلاث مدارس في سوريا من الخدمة، وبحسب اليونسكو فقد كانت سنة 2018 هي السنة الأشد فتكاً بالأطفال منذ بداية الحرب. بينما تتواصل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال على أشدها، بما في ذلك تجنيد الأطفال واختطافهم وقتلهم وإصابتهم. ناهيك عما خلفته المعارك من الذخائر غير المنفجرة، مما يجعلها تهديداً فتاكاً لملايين الأطفال السوريين، وفي الوقت نفسه ما زال أكثر من 5.5 ملايين طفل بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية.
واقع الطفولة في سوريا تجاوز بكثير حدود كلمة مأساوي، ويصنف اليوم بأنه خطير للغاية، ففي سوريا 2.6 مليون طفل متشردين داخلياً حسب التقديرات، هؤلاء ينتشر بينهم الإدمان، وبعضهم ينخرط ضمن تشكيلات عصابات سرقة وقتل أحياناً، يطلق عليهم اسم أطفال الشوارع، فلم يعد هناك أي مؤسسات تعتني بهذه الفئة من الأطفال والذين يعتبرون النتيجة الأوضح للدمار الإنساني للحرب.
كما جندت الأطراف المتصارعة في البلاد أطفالا صغاراً لا تزيد أعمار بعضهم عن سبعة أعوام. وأكثر من نصف الأطفال الذين جندوا في الحالات التي تحققت منها اليونيسيف في 2015 تقل أعمارهم عن 15 عاما.
إضافة إلى 2.5 مليون طفل آخرين يعيشون كلاجئين في البلدان المجاورة، معظمهم لا يحظى بفرصة للتعلم، وبعضهم مكتومي القيد، نظراً لعدم امتلاك الأهل لوثائق إثبات شخصية، خاصة ممن خرج نازحاً بعد تدمير كافة ممتلكاته ولجأ إلى دول الجوار دون إمكانية لاستصدار وثائق بديلة.
قرابة أربع ملايين طفل ولدوا خلال الحرب أي أكثر من ثلث إجمالي عدد الأطفال السوريين مجتمعين.
ولن نتحدث عما خلفته الحرب عند الأطفال من إعاقات جسدية دائمة، وكوارث نفسية خطيرة، قد لا تزول مع الزمن لنشهد جيلاً معتلاً جسدياً ونفسياً، يحتاج الكثير من العمل لإعادة تأهيله من جديد.
هؤلاء الأطفال اليوم وبهذا الواقع البائس، هم عماد المستقبل، هم دعامة النهوض بسوريا قريباً.
هذه الفئة الوحيدة الآن، التي تستحق أن تسخر كل الجهود أجلها، لإيجاد حل سياسي قابل للحياة والاستمرار، يضمن رحيل الأسد ومعه عصابات القتل، والإرهاب، وكل الاحتلالات. ومنه إلى إعادة الاستقرار، كي تتمكن الدولة القادمة، من الاهتمام الحقيقي بهذه الفئة التي تعتبر المتضرر الأكبر مما حدث، وهي الأمل الوحيد للنهوض، والأمل الوحيد في أن تصبح سوريا وطنا.
أما إذا بقي الحال على ما هو عليه، فما الذي سيربط هؤلاء الأطفال بالوطن؟ ماذا يعرفون عن سوريا، وحضارتها، وتاريخها، وأي صورة شكلوا لها في ذاكرتهم؟
والأهم ماذا قدم لهم الوطن؟ وكيف سيدركون معنى الوطن؟
ألم يقل الكاتب المغربي محمد العتروس: "وطني إذا لم يعشقني وأنا الجلف الذميم كعشق الفتاة لفارسها الوسيم، ليس وطني إنه سجن بقضبان".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية