ليست هي المرة الأولى التي تصطف فيها طوابير السوريين بانتظارسلعة ما، وهذا ما اعتادوه على مدى استمرار خطاب المقاومة والتصدي، وأن ما يجري في البلاد من تفقير وتقشف ليس سوى مؤامرة يجب التصدي لها بالصبر، وفقط هذا ما يقع على عاتق الشعب الذي اختار طريق النضال الذي تؤمن بها قيادته الحكيمة.
كان على السوريين في ثمانينات القرن الماضي أن يمتنعوا عن كل ما يعتقد النظام المقاوم أنه ملذات محرمة، وأن علب المحارم الورقية والموز والسمنة والبسكويت والدخان الجيد كلها محرمات حتى ينتصر البعث الحاكم في حربه ضد الامبريالية والصهيونية وعملاء الداخل.
السوري سخر من نفسه من أجل أن يرى في (قرن الموز) ذكرى تستحق أن يأخذ معها صورة لما سيأتي من أيام أو ليفاخر بها أمام أقرانه، وكان عليه أن يتدبر علبة المحارم الورقية كدليل على إمكانياته الإجتماعية والمالية، وأن رائحة السمن المستورد عليها أن تفوح في الحي كدليل صارم على أنه على قيد الحياة.
من أجل هذا...استثمر الفاسدون وتجار الأزمات في دمه، وفتحوا أبواب التهريب، واشتغل عناصر سرايا الدفاع على خط دمشق- بيروت ليل نهار ليتحولوا إلى طبقة جديدة طفت على وجه المجتمع السوري كقوة عسكرية مهيمنة، وقوة اقتصادية تتحكم في إيصال المحرمات الإنسانية، وبات على السوري المسكين أن يتمسح بالحذاء تارة، وبالبزة العسكرية تارة أخرى في دوران مريع، وكرنفال ذل أسود.
اليوم تبدو القصة واضحة أكثر لاعتبارات عدة، ومنها أن مؤيدي النظام يتفاخرون بالذل بانتشاء المنتصر، ويتعمق لديهم الشعور بأن الحصار هو ثمن وليس مخطط يساهمون فيه وإنما بالإمكان استثماره، وأيضاً اتسعت قائمة المحرمات على السوري، وجيبه الفارغة التي لا تساعده على شراء المُهَرب ولا حتى المحلي، والأهم أن البزة العسكرية أصبحت سيدة وحيدة تفعل ما تشاء من دون ان تقدم شيئاً فهي كما قدمت نفسها على مدار سنوات الموت في أنها المنقذ الوحيد الذي يجب أن يأخذ حقه نيابة عن الجميع.
كرنفالات البنزين وقبلها الغاز والمازوت والخبز لن تتوقف في بلاد الصمود والتصدي، وكلما انتهت احتفالات طابور على الطابور القادم ان يكون جاهزاً، وهؤلاء الذين يحتفلون اليوم لن يصدقوا عجر حكومتهم عن تأمين ما يلزم لحياتهم حتى لو أقرت بعجزها، ويرون ان القصة ستنتهي بانتصار مؤكد جديد.
ولا يمنع هذا الشعور تنامي الأصوات التي تنادي بالتغيير من داخل هذه الشرائح المحتفلة، وهي لن تصل في صراخها إلا حيث يمكن اتهام الخارج وبعض أعوانه من دواعش الداخل كما تحلو تسميتهم، وأما تلمس الحقيقة العاجزة فهو مؤامرة يجب التنبه لها لأن غايتها ضرب الروح الوطنية التي باتت تمشي دون هوادة.
ليس مفاجئاً أن تقبل هذه الجموع بضريبة الانتظار في طابور الذل، والسعر الجديد للتر البنزين، ومن ثم تعيد احتفالاتها في طابور جديد، وسهرة سمر في أزمة قادمة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية