برزت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة اعتماد رؤساء و"زعماء" دول عربية على فرق الردح، منهم ممثلون ومغنون وكتّاب وشعراء من الجنسين.
أثار انتباهي كيف تخرج كتيبة من هؤلاء في كلّ حدث كبير، وخصوصاً عندما تتعرض الأنظمة لهزّات عنيفة تخلخلها وتكاد تطيح بها، وفي آخر حدث تاريخي وهو توقيع دونالد ترمب على قرار الاعتراف بضم الجولان إلى "إسرائيل"، لم نلحظ ردّا سياسياً حقيقياً ممن يستوجب أن يخرج على الناس وهو بشار الأسد، رأس النظام السوري.
فجأة تحول القرار الأمريكي الكارثة إلى انتصار للأسد عبر مغنٍّ شعبي يدعى علي الديك على إحدى القنوات اللبنانية، إذ يمارس الأخير "بلطجته" على الجمهور بعد أن تحدث أحد ضيوف البرنامج عن بيع الجولان، فيرتفع صياح "الدّيك" بأن الجولان سيعود وأنه لا يقبل أن يقال عن رئيسه (بشار الأسد) بأنه باع الجولان، ثم يصفق الجمهور، ويخرج الضيف المنتقد، ويشعر "الدّيك" بالانتصار، ويخرج الموالون للنظام بتغريدات وتدوينات عبر السوشال ميديا تصف البطولة وتمجد الزعيم، وهنا يتحقق الانتصار، وكأن القضية ليست في الجولان وصفقة ترمب ـ نتنياهو.
تلك هي سياسة إثارة عاطفة القطيع المثقل بالهزيمة والجوع، والمتخم بركام من العبارات والشعارات التي رسّخها الحزب وأدوات النظام في عقول الناس.
ذات يوم عام 1991، تساقط الثلج غزيراً فغطّى قريتنا، استيقظ الأطفال على مشهد لم يروه من قبل، إذ ليس ثمة عبارة أو أغنية تعلمها هؤلاء، فهتفوا "بالروح بالدم نفديك يا حافظ".
نصل إلى استخدام النساء، إذ لا توجد دلالة منطقية سوى تنمية التفكير بالغريزة عبر استخدام راقصة أو عارضة للترويج لزعيم عربي، أو رئيس حزب أو ميليشيا طائفية.
شخصياً لا أعلم الإنجازات التي حققها بشار الأسد وأبوه حتّى ترقص في أعراسه المصطنعة كتيبة من رجال الدين والغناء والرقص والكتابة وكأنهم حريم للزعيم، وليس أمامي من تفسير لذلك سوى أن هؤلاء هم الّذين علقوا في قفص الديكتاتور ونظامه، إذ نلاحظ أن مقابل هؤلاء هنالك فنانون وشعراء وكتاب ورجال فكر وفلاسفة كسروا خوفهم من السجون وباتوا أكثر تحرراً، بل إنهم تعرفوا على قدراتهم بطريقة عملية، ولا أقصد هنا المتلونين والانتهازيين والقافزين من المركب إلى مركب آخر أكثر ضعفاً.
تتكرر الحالة في لبنان فتجد فنانين كباراً، حتى من اليسار، عالقون بثوب السيّد زعيم الحزب الديني، ولا أدلّ على ذلك من زياد الرحباني وجوليا بطرس، وهذا ليس خيار سياسياً أو انحيازا عقائدياً بقدر ما هو إحساس بالنفعية من الولاء بالنسبة للحالتين المذكورتين.
ونذهب أكثر إلى دول الخليج التي يدير بلاط بعضها راقصو العرضة وكتّاب الأغاني والشعر النبّطي، وليس المقصود الإقلال من قيمة الشعر، بل الدلالة على حالة الرعب والاستسلام لدرهم الحاكم أو عصاه، فترى هنا كتيبة من المغنّين يشاركون في "ردحية" سياسية ضدّ بلد جار.
إلى المغرب العربي ستجد أن الشاب خالد وسعد المجرّد اضطرّا زعماء للتدخل مع الدول الأوروبية لتخليصهما في قضايا عنف واغتصاب.
في دولة مثل فرنسا، يمكن لمطرب أو فنان أن يشكل حالة استثنائية مؤثرة في الشارع كما حصل في حالة ميشيل جيرار كوليشي، الملقب "كوليش"، الذي ترشح لمنصب الرئاسة على خلفية شعبيته ككوميدي سخر من السياسيين، وأمام الصحفيين في أكتوبر 1980، وكان عمره حينها 36 عاما، أعلن رسميا أنه سوف يكون واحدا من المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، وقال وقتها جملته الشهيرة: "إنهم (أي رجال السياسة) يتعاملون معنا (الشعب) كمغفلين، إذن صوتوا لمغفل"، وأظهرت الاستطلاعات حصوله على 14% من ميول الناخبين.
ربما تتيح ظروف الفوضى والأنظمة الشمولية استغلال هذه الشريحة، لأنها لا تسمح لها أساساً بتخطي عتبة الرقص حول الشيطان، ولو لم يكن الأمر كذلك لاستطاع دريد لحّام عبر "كاسك يا وطن" أن يضحك علينا جميعاً ويصل إلى سدّة الرئاسة، ولا ندري ما إذا كان الأخير سيكون رئيسا صالحا مثل "دونالد ريغن" مثلاً لو أن الشعب يملك حقّ الرقابة على الحكم.
يعبر كثيرون عن الفرح بموت الماغوط ونزار قباني قبل اندلاع ثورة آذار 2011، ولهم الحق، فليس مفهوما بعد وقوف أدونيس مع ثورة الخميني الإسلامية وضد ثورة السوريين لأنهم خرجوا من الجوامع.
شخصياً ينتابني الشكّ في المتنبي، وماذا لو أن كافور الإخشيدي أكرمه كما يرغب، إذن لقال في مدح خصاله وجماله وأصله ما لم يقله "الجواهري" في حافظ الأسد.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية