أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أمهات المنافي القسرية.. عبد الرزاق دياب*

لاجئة سورية في مخيم الزعتري - جيتي

هذا الفجر قتلت طائرات روسية أربعة أطفال في ريف إدلب هدية لأمهم في عيدها، وبالأمس كانت طائرات التحالف الدولي تمارس عشوائية موتها في "الباغوز" لتترك طفلاً وحيداً يبكي بجوار جثة أمه القتيلة، وفي ريف دمشق أم تبكي ولدها الذي وصل منه إلى حضنها فقط بطاقته الشخصية شاهدة على موته البطيء في معتقله.


سوف تقرأ اليوم قصصاً كثيرة عن أمهات قتلن أو سجنّ أو غائبات، وسوف تتمنى إحدى معارفك أن ترى صورة حديثة لأمها التي اعتقلت في "الزبداني" منذ ست سنوات، وأن حظى بمعايدة فيسبوكية أو مكالمة فيديو منها ولو من أي مكان في هذه الأرض الشتات.


سيرثي أحدهم أمه الحية الوحيدة في منفاها، وهي تنتظر أن تجمع حولها ما انفض من فلذات كبدها، وهي التي كان بيتها ملتقى أبنائها وأحفادها، وتحلم بتلك السنوات الصاخبة التي مرت، حيث يوم عيدها كان مهرجاناً لصغار يحطمون ما تظنه عزيزاً، وصار اليوم ذكرى خراب.


ماتت أم محمود في تركيا، ودفنت في مقبرة "غازي عينتاب" بعيدة عن مقبرة أهلها في ريف الشام، حيث دفن أهلها وأقاربها وزوجها الذي باغتته قذيفة هاون، وفي مرضها كما يقول ابنها كانت أيامها ألأخيرة أحلام عودة، وابتهالات بالفرج، وأمنية وحيدة أن يحمل ما بقية من رفاتها إلى مقبرة القرية الحبيبة.


في الشتات الموزع حسبما شاءت أقدار الأمهات السورية توزعت جثامين الراحلات الحالمات بموت يليق بكل هذا الشقاء، وبات على أغلبهن أن يرسمن أشكالاً لائقة بمفابر غريبة، وعابرين قلائل يحملون النعش إلى غرفته الأخيرة أو حفرته اللانهائية، حيث لن يبكيها سوى بعض الجيران، وربما ولدٌ هو ما بقي من عائلة كانت ذات يوم ليس بالبعيد قبيلة أطفال صاخبة.


"مهند" ترك أمه ووطنه منذ سبع سنوات، وما زال ينتظر فرصة ليلتقيها في منفاه، وأما هي التي باغتها العمر وصندوق الأمراض فتخشى السفر، أو أن تموت في الطريق إلى ابنها، وأما أكبر أحلامه أن يراها مرة احدة، ويتمكن من إرسالها إلى الحج كي يعوضها بعض ما يعتقد أنه تسبب به لها من وجع.


الأمهات الصغيرات أيضاً لهن أوجاعهن ومخاوفهن...بين بلاد غريبة يعشن فيها لاجئات، وبين وطن بعيد يتمنين العودة إليه، وأما الخشية فهي على أبناء يتعلمون لغات جديدة وعادات مختلفة، ووطن يبتعد رويداً رويداً، وربما تطويه سنوات الشتات الطويلة.


هنا في القاهرة تعيش ليال مع ابنها وابنتها، وانتقلت إلى ضاحية فقيرة قادمة من دبي، حيث كان من الممكن أن تجتمع مع زوجها القادم من دمشق، وست سنوات مرت على هذا الأمل بعد أن اضطر زوجها للهجرة إلى ألمانيا لأنه لم يتمكن من دخول مصر، ومنذ أشهر قليلة تجدد الحلم بلقاء بعد أن قبلت أوراق لمّ الشمل للأسرة..ومع ذلك تقول لمن يلتقيها...لست سعيدة أبداً.


بين موت ومنفى قسري ثمة حكايات لم تفرج عنها القلوب بعد..دموع لم تجف وقلوب مكسورة موزعة بين منافٍ ووطن محطم.

*من كتاب "زمان الوصل"
(456)    هل أعجبتك المقالة (465)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي