أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

كما رواها أحد الناجين لـ"زمان الوصل".. تفاصيل مجزرة نيوزيلاند كما لم تسمعها من قبل (لحظة بلحظة)

بين هذه الجثث وتحتها بقي "هشام" 17 دقيقة يعاين انهمار الرصاص ويسمع حشرجات الموت.. في الإطار "هشام" على سرير المشفى

عندما ضربت موعدا للحديث مع أحد الناجين من مجزرة نيوزيلاندا التي وقع ضحيتها نحو 100 شخص بين شهيد وجريح، تخيلت أن هذا الشاهد لن يقدم شيئا كثيرا في وصف هول المجزرة ولن يستطيع أن يقول فوق ما قاله الشريط الذي صوره القاتل الإرهابي بنفسه وقدم فيه الجريمة عارية ومباشرة كما لم يفعل أحد من قبله..

ولكن ما إن بدأت الحديث مع الناجي الذي ما يزال على سرير المشفى، حتى خاب ظني، وشيئا فشيئا بدأ يتضح مدى توهمي بأن الشريط قد قال كل شيء عن الجريمة الرهيبة، وأن شهادة الناجي المصاب لن تكون سوى تكرار للمشاهد التي عايشها الكثيرون وهم يتابعون شريط المجزرة بمزيد ومزيج من المرارة والحنق والذهول والفجيعة.

وأكثر ما اتضح لي أننا كإعلاميين وجمهور، غالبا ما نكتفي بإطلاق الأوصاف المقززة على الأفعال الشنيعة، ونظن بذلك أننا "وفينا" هذه الجرائم حقها وأننا قد جعلنا الآخرين يشمئزون منها منتهى الاشمئزاز، دون أن نهتم بالتفاصيل التي تساعد على "تجسيم" الجريمة وتبيان أبعادها والنفاد إلى جوهر بشاعتها، بوصفها لحظات عصيبة على الضحايا، وليس بوصفها مجرد بيان مليء بألفاظ الاستنكار أو شريطا مدججا بالعنف.

من على سرير الإصابة في إحدى مشافي "كرايست تشرش" المدينة التي شهدت مذبحة المسجدين، تحامل السوري "هشام الزرزور" على جراحه الجسدية والنفسية الكثيرة، واسترجع معي بكل شجاعة وقائع مذبحة مسجد النور لحظة بلحظة.

أول ما نوه إليه "هشام" المتحدر من إحدى قرى درعا، علاقته القريبة وجيرته مع الضحية "خالد حاج مصطفى" الذي كان يعيش على بعد مئات الأمتار من منزله، وكان يمر عليه كل جمعة ليصطحبه إلى الصلاة بسيارته.

وفي يوم المذبحة، مر "خالد" على جاره "هشام" في توقيت مبكر بنحو 10 دقائق، وكان ذلك قرابة الواحدة ظهرا، وكان مع "خالد" ابناه حمزة وزيد، فضلا عن طالب ماليزي في مدرسة حمزة.

توجه الجميع نحو المسجد الذي يبعد مسافة 5 دقائق تقريبا، وهناك ركن "خالد" سيارته في مرآب مسجد النور (الواقع في مركز مدينة كرايست تشرش، ثالث أكبر مدن نيوزيلاندا)، وترجل الجميع من السيارة ليمشوا بسكينة نحو المسجد، حيث كان هناك متسع جيد من الوقت قبل إقامة الصلاة.

جلس الجاران هشام وخالد بجانب بعضهما، بعد أن أديا تحية المسجد، وجال "هشام" بنظره في أرجاء المسجد، ثم شرع في الاستغفار منتظرا موعد إقامة الصلاة، ولما أذن الظهر قام فركع ركعتي سنة، ثم جلس حتى أذن لصلاة الجمعة وصعد الخطيب.

لم يكد خطيب المسجد يكمل الفقرة الأولى من خطبته بالعربية، ويشرع بالفقرة الإنجليزية (يقسم الخطيب خطبته إلى فقرات يقرأ كل فقر بالعربية ثم يلحقها بترجمة للإنجليزية).. لم يكد الخطيب يستوي على المنبر بضع دقائق حتى سمع "هشام" دوي رصاص، ظن أنه ناجم عن ألعاب نارية، أو إنه صوت ناجم عن ماس كهربائي، لاسيما أن هناك واحدا من بين المصلين قام وقال إن هناك ماساً.

وتابع هشام: رغم معايشتي أهوال الحرب في سوريا سنوات، ومعرفتي التامة بصوت الرصاص، لكني للوهلة الأولى لم أكن ولم أرد أن أتخيل إطلاقا أن هناك هجوما على المسجد، فنيوزيلاندا تاريخا وحاضرا من بين أقل دول العالم انخراطا في الصراعات، ومن أكثرها حيادا وتجنبا للتدخل في أي مشكلة، وشعبها منكفئ على ذاته ومهتم بأموره الداخلية إلى درجة أنه بعضهم لم يسمع بالإسلام كله، فضلا أن يعرف شيئا عن مبادئه أو عن معتنقيه، وهو بهذا المعنى أو ذاك شعب مسالم للغاية لبعده عن الحروب ولندرة الحوادث العنفية التي يمكن أن تشهدها نيوزيلاندا قياسا بالبلدان الأخرى، بما في ذلك الجارة أستراليا.. ومن هنا كان الهجوم المسلح مجرد كابوس افتراضي ومستبعد بادئ الأمر.
ولكن ما أن أفرغ الإرهابي أولى طلقاته التي رماها دراكا (طلقة طلقة)، وتحول الرمي إلى الرش، حتى أدرك "هشام" أن الكابوس بات أمر واقعا، وتيقن هو ومن معه أنهم باتوا بين براثن مجموعة من الإرهابيين يحاصرونهم من كل الجهات، وقد عزز من هذا أن المجرم كان محترفا في إطلاق النار إلى درجة أنه لم يكن يظهر أي تردد أو ارتباك ولم يكن يتلفظ بأي كلمة حتى ولو شتيمة، وكان إطلاقه للنار كثيفا ومتواصلا بلا هوادة و"منظما"، ما جعل المصلين يجزمون أن هناك عصابة أشرار متكاملة تهاجمهم، ورسخ ذلك صدى دوي الرصاص في جنبات المسجد.

وأضاف هشام: في هذه اللحظات من الهرج، توجه بعض المصلين نحو مخرج الطوارئ في المسجد، لكنهم فوجئوا بأنه مغلق وعلموا فيما بعد أن الرقم السري للباب قد جرى تغييره قبل فترة، وبهذا أغلقت في وجوه هؤلاء أحد أبواب النجاة، ومنحت الفرصة للإرهابي لحصد المزيد من الأرواح برصاصه.
وفي هذه الأثناء أيضا تدافع آخرون نحو مصلى متصل بباب ينفتح على المرآب، وقد استطاع بعضهم الخروج فعلا فهاجمهم الإرهابي عندما خرج لاستبدال سلاحه ومخازنه، بعد أن أفرغ نحو 5 مخازن في أجساد المصلين.
ومع خروج الإرهابي وتوقف الرصاص لدقائق، رجع بعض من غادروا المسجد إلى داخله لاستطلاع الوضع ومساعدة المصابين، وفي هذه اللحظات عاد الإرهابي وفتح عليه النار من جديد ما جعل حصيلة الضحايا ترتفع.
هشام الذي عاش 17 دقيقة من الرعب وإطلاق النار ولفظ الأنفاس وتفجر الدماء من الأجساد والرؤوس، وصرخات الضحايا، شاهد شريطا مرعبا أكثر بآلاف المرات من الشريط الذي بثه الإرهابي، شريط كل ثانية فيه حافلة بفاجعة، وثوانيه كالسنوات، وسط غياب أي بصيص أمل بالنجاة.

بداية الفواجع كانت بسقوط صديق هشام وجاره "خالد الحاج مصطفى" أمامه مضرجا بدمائه وسماعه آخر حشرجات الموت تخرج من صدره، ثم تكدس الجثث حول "هشام" وفوقه، واضطراره للبقاء هكذا دون حراك حتى انجلى غبار المجزرة، واستطاعت جثامين الموتى حمايته من مصير لم يحمه منه الأحياء، وهذا بالذات فاجعة تفوق كل الفجائع.

فقد تأخرت الشرطة كثيرا في الوصول إلى موقع المسجد، رغم وقوعه في قلب المدينة، ورغم دوي الرصاص الذي دام أكثر من ربع ساعة، بل إن الشرطة لم تدخل المسجد فور وصولها ظنا منها أن المجرم (أو المجرمين) ما يزال داخله، وهذا ما أخر عملية إسعاف المصابين، وفوت فرصة إنقاذ أرواح كان يمكن إنقاذها.

هذا التأخر رغم فداحته وثمنه الباهظ، ورغم أن "هشام" أحد ضحاياه، حيث عانى صدمة رهيبة لا يمكن أن ينساها، هو أمر متوقع في سياق من يعرف طبيعة نيوزيلاند وشرطتها، فالناس في "كرايست تشيريش" بالذات يعيشون في منطقة زلازل، وهم معتادون إذا ما حدث شيء غير طبيعي أن يلوذوا بمكان آمن في بيوتهم ويكتفوا بمهاتفة الشرطة، ومن هنا فإن أحدا من جيران المسجد لم يهرع أبدا لمساعدة الضحايا، ولا حتى لاستطلاع الأمر.

أما الشرطة فهي هنا غير مسلحة، وإذا ما وقع حادث عنفي وهو أمر نادر، فإن على عناصر الشرطة العودة إلى مقرهم لاستلام أسلحتهم وتلقي التعليمات، وهذه إجراءات تأخذ وقتا ليس بالقصير، وهي في الأساس مصممة للتعامل مع أخطار فردية وبسيطة، ومن هنا ظهر فشلها في التعاطي مع مجزرة بحجم مجزرة المسجدين.

ومما يتذكره هشام بلوعة، أن ابني الشهيد "خالد"، حمزة وزبد، استطاعا الخروج من المسجد بينما كان الإرهابي ما يزال يواصل هجومه، وقد كان زيد (الابن الأصغر) حينها مصابا في فخذه، بينما كان حمزة سليما، ولما خرج الإرهابي استهدف حمزة برصاصة واحدة استقرت في كتفه، وكان "حمزة" وقتها يحادث والدته بالجوال محاولا إخبارها بما حصل، وبقي "حمزة" مع أمه على الهاتف قرابة 20 دقيقة حتى قضى بعد أن نزف القسم الأكبر من دمه، فيما كان بإمكان الإسعاف إنقاذه لو حضر مباشرة، علما أن الإسعاف لا يستطيع (بموجب القواعد المتبعة في البلاد) الدخول إلى مسرح أي واقعة إجرامية إلا بعد أن تأذن له الشرطة وتعطيه إشارات مؤكدة بأن المنطقة "آمنة".
ويتذكر "هشام" أيضا كيف اندفعت إحدى المسلمات النوزيلانديات الأصل من مصلى النساء نحو زوجها لتنقذه، فقضت شهيدة على يد الإرهابي، فيما كتب الله لزوجها النجاة.
وفي هذا السياق نفى "هشام" أن يكون الإرهابي على علم بالمسجد ومخارجه ومداخله، إذ لو كان يعلم مخطط المسجد لكان دخل إلى مصلى النساء، ولكانت حصيلة الضحايا مضاعفة، ولكن الشاهد في نفس الوقت يؤكد أن الهجوم لا يمكن أن يكون مجرد عمل من تخطيط فردي أو ساذج، معربا عن ثقته بجدية السلطات في تعقب كل من له علاقة بالمجزرة تخطيطا أو تحريضا أو تأييدا.

وأشار "هشام" إلى ذهول النيوزلانديين من الطبيعة الوادعة للمسلمين حتى في أحلك اللحظات، والتي جسدتها عبارة قالها مصل أفغاني للإرهابي وهو يهم بدخول المسجد (أهلا أخي)، وهي العبارة التي حفرت عميقا في وجدان شريحة من النيوزيلانديين وجعلتهم يحسون أكثر بفداحة المجزرة.

وبالعودة إلى شريط الجريمة الذي صوره الإرهابي، والسؤال عن وجود "كومتين" من الجثامين داخل المسجد، أفاد "هشام" أن المجموعة الأولى من الجثث كانت على اليمين قرابة المصلى المتصل بالمرآب، وتضم هذه المجموعة نحو 20 جثة، أما المجموعة الثانية فقد كان فيها نحو 15 جثة، وكانت قريبة من باب الطوارئ، وقد بقي "هشام" بين جثث هذه المجموعة حتى تأكد من رحيل الإرهابي فخرج إلى الشرطة الذين أمنوا له سيارة تسعفه نحو المشفى (هاتان المجموعتان بالذات عاد إليهما الإرهابي وأعمل فيهما رصاصه عن قرب، حسب ما يظهر شريط الجريمة).


"هشام" أبدى ألمه الشديد من الأنباء التي سمعها بعد نجاته من أن الإرهابي كان قد نشر قبل نحو شهرين بيانا واضحا حول نواياه الإجرامية إزاء المسلمين، بل إنه أرسل قبل 9 دقائق من الهجوم رسالة يكشف فيها أنه بصدد تنفيذ هجومه، وعممها على نحو 70 مسؤولا في البلاد، وفي مقدمتهم رئاسة مجلس الوزراء ومراكز الشرطة، ورغم ذلك فقد فعل الروتين وعدم وجود سوابق إرهابية خطيرة.. فعلا فعلهما في أسلوب التعاطي الذي جاء متأخرا عن المجزرتين كثيرا.

فما إن فرغ الإرهابي من مجزرته في مسجد النور، حتى توجه نحو مسجد آخر يبعد نحو ربع ساعة، وخلال هذا لم يعترضه أيضا أحد من الشرطة، ولولا لطف الله ثم شجاعة أحد المصلين الأفغان لكانت حصيلة ضحايا المسجد الآخر بالعشرات، (اقتصرت على نحو 7 مصلين)، ولم يكتف الإرهابي بذلك بل توجه نحو مسجد ثالث، وهنا كمنت له الشرطة وقبضت عليه.

ورغم علمه باستحالة تنفيذ الإعدام، لأن هذا الحكم ملغى في نيوزيلاندا، فقد تمنى "هشام" أن يكون الإعدام مصير هذا المجرم الذي اقترف فعلة لا يمكن تسويغها في أي شرع أو قانون، مؤكدا أنه كان سيطالب بالإعدام لهذا الإرهابي حتى لو ارتكب جريمته ضد أتباع أي دين، فقتل الناس في دور العبادة بالذات يمثل أحط دركات الإجرام، ويفضح الجانب الأكثر ظلامية في النهج المتطرف، وهو نهج يجب أن يحاسب كل من يسانده أو يدعمه ولو بشق كلمة، وأن يبدأ الحساب من أولئك الذين يصدرون أنفسهم في المشهد السياسي والحزبي، من أمثال النائب الأسترالي "فريزر أنينج"، فهؤلاء لا يشرعنون ويجملون الإرهاب وحسب، بل إنهم يبرؤون الإرهابي ويجرمون الضحايا.

وفي ختام شهادته على وقائع المجزرة التي عايشها ثانية بثانية في مسجد النور بمدينة "كرايست تشرش"، ربط "هشام الزرزور" ما حدث مع ما تشهده سوريا من مآس ومجازر، حيث إن تدفق مئات اللاجئين السوريين إلى مدينة "ديندن" بالذات جعل هذه المدينة هدفا لسهام المتطرفين ليهاجموا برنامج الهجرة واللجوء الذي تتبعه الحكومة النيوزيلاندية، وهو ما جعل البعض يتوقع أن تشهد "ديندن" أحداثا إجرامية على خلفيات عنصرية ومتطرفة بذريعة "الحفاظ على الهوية" من تدفق السوريين وأمثالهم، لكن الذي حدث أن "كرايس تشرش" التي ليس فيها سوى عدد قليل للغاية من السوريين وجالية صغيرة من المسلمين كانت "الهدف".


إيثار عبدالحق-زمان الوصل - خاص
(202)    هل أعجبتك المقالة (195)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي