تناولنا في الحلقة الأولى من مبحثتا الغطاء القانوني المحلي لجرائم النظام السوري كيف يتخلّص النظام من معارضيه عبر محاكم أنشأها لهذه الغاية، وهي محكمة الإرهاب، ومحكمة أمن الدولة العليا، والمحكمة الأمنية الخاصة.
واليوم نشرح كيفية تنصل النظام من المساءلة القانونية عن جرائمه بحق معارضيه أو "قوننةُ الإفلات من العقاب".
لعلّ من أبشع وأقسى القوانين في النظم الاستبدادية، تلك القوانين التي تهدف إلى السماح للمجرم بالإفلات من العقاب فتبرّئ المجرم، لا بل تجعل فعله مباحاً باسم القانون. وبالتالي تجرّم البريء، وتغلق كل طريق أمامه للمطالبة بحقه بمقاضاة المجرم.
وحين هبّ الشعب السوري الثائر للمطالبة بحقوقه لم يتوانَ النظام عن استخدام كل أساليب العنف بدءا من الاعتقال إلى المجازر الجماعية وقصف المدنيين بالسلاح العادي والكيماوي.
ولأنّ هذا النظام يدرك أن أفعاله تلك تشكّل جرائم معاقب عليها في القانون السوري والدولي، وأنه سيكون موضع مساءلة يوماً ما، فقد سعى منذ استلامه الحكم إلى إحاطة نفسه بالحماية القانونية التي تبرر جرائمه وتوفر الغطاء القانوني لها ضمن منهج يقوم على "قوننة الإفلات من العقاب"، وهي ليست سوى قانون القوي.
وتشمل هذه الحماية كل درجات النظام من رأس الهرم السياسي حتى أصغر عنصر في المخابرات.
ولذلك فإننا سنستعرض الغطاء القانوني الذي وفره لنفسه على مختلف درجاته.
1-رئيس الجمهورية:
أسّس حافظ الأسد منذ استيلائه على حكم سورية منظومة الإفلات من العقاب عن الجرائم التي يرتكبها ضد المعارضين، وعزّزها ابنه بشار من بعده.
فبالعودة إلى دستور عام 1973 - الذي سمّاه النظام "الدستور الدائم" والذي جاء مفصلاً على مقاس الأسد الأب وحده، لأن السلطة لديه غير قابلة للقسمة - ندرك كيف منح لنفسه صلاحيات مطلقة كرئيس للسلطة التنفيذية بحيث تسمح له التحكّم بمفاصل السلطتين التشريعية والقضائية بغية منح الحماية القانونية له في مواجهة أي مساءلة أوعقاب.
حيث تنص المادة 91 من الدستور المذكور (إنّ رئيس الجمهورية لا يكون مسؤولا ًعن الأعمال التي يقوم بها مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى).
فإذا علمنا أنه لا توجد في قوانين العقوبات السورية أي جريمة بهذا الاسم أو حتى تذكر الخيانة العظمى ذكراً.
وإذا علمنا بأن الدستور يقول بأنه لا يُجرّم ُ ولايعاقب أي شخص عن فعل لا يشكل جريمة منصوص عليها في القانون، فإننا ندرك حجم الحماية المطلقة التي وفرها حافظ الأسد لنفسه من الملاحقة والعقاب.
كما أنه وإمعاناً في الحصانة، فإنه إذا جرى وتمّ اتهامه بالخيانة العظمى، فإن الدستور اشترط أنه لا تتمّ الملاحقة إلا بقرارٍ صادرٍ عن مجلس الشعب بتصويتٍ علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس وبجلسة سرية خاصة، ولاتجري محاكمته إلا أمام المحكمة الدستورية العليا.
فكيف ستتمّ ملاحقة ومعاقبة الرئيس بعد كل تلك الموانع والعقبات القانونية خاصة إذا علمنا أن حزب البعث الحاكم يسيطر على نصف أعضاء مجلس الشعب وأنّ قضاة المحكمة الدستورية العليا يقوم الرئيس بتسميتهم، ومن البديهي أن يكون ولاؤهم له مطلقاً في هذه ة الحالة. إذن الرئيس لايُسأل قانونياً مهما كانت جربمته.
والجدير بالذكر أنّ نصوص المواد التي ضمنت للأسد الأب الغطاء القانوني تكرّرت حرفيا في دستور عام 2012 في عهد الأسد الابن مع اختلاف أرقامها فقط.
2- الوزراء ونوّابهم:
كما كرّس حافظ الأسد هذه الحصانة ضد الملاحقة والعقاب لصالح وزرائه مهما كانت جرائمهم مادامو معلنين له السمع والطاعة، حيث حصرَ سلطة ملاحقتهم بيده فقط.
فقد نص دستور عام 1973 أنّ رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوّابهم مسؤولون أمام رئيس الجمهورية، وأنّ من حقه فقط إحالة أحدهم إلى المحاكمة أو عدم إحالته حتى لو ارتكب أفعالاً تعبتر جريمة حسب القانون لأن المعيار في ذلك هو الولاء له لا كون فعله يشكل جريمة.
وكذلك الشأن في عهد بشار في دستور عام 2012.
3 - أعضاء مجلس الشعب:
وهم أيضا لايقلّون حصانة عن الوزراء، حيث إنه بموجب دستور الأسد الأب والابن يتمتعون بالحصانة طيلة مدة ولاية المجلس، ولا يجوز ملاحقة أي عضو عن أيّ جريمة ٍيقترفها إلا بإذنٍ سابق من المجلس، وإذا كان المجلس غير منعقد، فالإذن بالملاحقة يصدر عن رئيس المجلس الذي لايُشكّ ُبولائه لرئيس الجمهورية، بمعنى أنه من صلاحية رئيس مجلس الشعب قانوناً ألا يعطي الإذن بملاحقة أيّ عضو حتى لو شكّلت الأفعال التي يرتكبها جريمة ً يعاقب عليها القانون.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية