بدون حقائب، هرع الأسد إلى طهران يشتكي عزلته بعدما وصلته رسائل موسكو بالتخلي عنه، راح يرمي ما تبقى من نظامه في الحضن الأخير، لم يتبقَّ له سوى إيران، غامر بورقته الأخيرة، فأودعها الشريك الضعيف الذي يعاني ربما مثله أو أكثر.
عاش بشار الأسد الأيام الأخيرة في ظل كابوس بات لا يفارقه منذ أوحى الرئيس الروسي لوسائل إعلام بأن الأسد ليس مهما له، وأن اهتمامه ينصب على مصلحة روسيا "العظمى"، ترافق ذلك مع الصور التي تسربت لوسائل الإعلام وهي ترصد بشار الأسد واقفا بذلّ على الأرض السورية في حميميم مع عناصر من الجيش الروسي، يستمع إلى حديث بوتين كأنه عنصر منهم.
وكان الأسد تلقى جرعة معنوية جعلته يصدق كذبة انتصاره وإمكانية إعادة تلميعه، تمثلت بزيارات مسؤولين عرب إلى دمشق وإعادة فتح أكثر من سفارة، بالتزامن مع تشاور عربي حول إمكانية إعادة نظامه إلى الجامعة المدفونة منذ زمن، غير أن هذه الجرعة لم تلبث أن تلاشت بفعل الضغط الأمريكي، وإشارات دولية واضحة، دفعت العرب الذين هرولوا في لحظة ما باتجاهه للهرولة بعيدا عنه.
بعد هذا، فُجع بشار بنبأ تخلي داعمته وراعيته الأهم إسرائيل عنه حيث ناقش نتنياهو مع بوتين الحالة السورية ما بعد الأسد، وتزامن ذلك مع اتفاق الطرفين على التنسيق فيما بينهما قبل الضربات الإسرائيلية التالية للمواقع الإيرانية في سوريا.
ولكن الإشارات الروسية المتتالية لا تعني تخليها عن الأسد بين يوم وليلة ودون ثمن، إنها تنتظر من اللاعبين المؤثرين على الساحة السورية تعويضا مقابل تنازلها النهائي عنه، ومن المتوقع أن ينخفض سعره بعدما أغضب روسيا بارتمائه كليا في حضن ملالي طهران، وهو من كان في الفريق المحسوب عليها ضمن تركيبة نظامه.
إنها محاولته الأخيرة للنجاة، وهذه المرة غيّر نمط التعامل مع الغرب وروسيا، وأوحى بزيارته لطهران المعاقبة أمريكيا والتي يصفها ترامب بأنها راعية الإرهاب الأولى، بأنه قد يتحول نظاما مشاغبا يمكن أن يقوم بأعمال غير منضبطة تسبب مشاكل لا يمكن أن يتحملوا نتائجها.
إنه بذلك يعلن حلفا سوريا إيرانيا يظن أنه قد يكون قويّا لدرجة تدفع الغرب لتغيير سلوكه مع نظام حكمه، ولكن فاته أن أمريكا ومعها إسرائيل وبقية الدول الغربية، قادرة في كل لحظة على الإطاحة به، إذا ما تم رفع الغطاء كليا عنه وإرضاء روسيا بمكسب ما في مكان ما، ويبدو أن ذلك يحتاج فقط اكتمال ترتيبات المرحلة الأولى لما بعد تغييبه.
كل هذه التطورات التي أثقلت كاهل الأسد لا تعني بالضرورة أن نستيقظ غدا على نبأ غيابه عن المشهد، لأن سورية باتت ساحة لصراع دولي متشابك تتعدد أطرافه وتتنازع فيما بينها، وهذا ما أرجأ الاتفاق التفصيلي على النفوذ في منطقة شرق الفرات وكلك منطقة إدلب ومصير هيئة تحرير الشام، ويبدو اللاعب التركي الأكثر حرصا وتدقيقا في التعامل مع هذين الملفين، وهو يسعى لدى كل الأطراف من أجل تفوضه بهما.
الأسد الذي انتقد في خطابه الأخير اتفاقات سوتشي والأستانة واللجنة الدستورية لأنها قد تفضي بالنهاية إلى رحيله لا يروقه هدوء الجبهات لأن استمرارها مشتعلة يعني انشغال الجميع عنه، وهو من أجل هذا يصعّد عسكريا في ريفي إدلب وحماة محاولا استفزاز المقاتلين هناك على نقض اتفاقات سوتشي والعودة لساحات القتال، ولا شك أنه ناقش مع القيادة الإيرانية إمكانية مشاركتها له في اقتحام إدلب بغض النظر عن موافقة روسيا أو رفضها رغم ميل الأخيرة إلى الالتزام باتفاق سوتشي وعدم استفزاز تركيا، والعودة إلى المربع الأول.
حضور قاسم سليماني قائد فيلق القدس للقاء بشار مع القيادة الإيرانية يؤكد هيمنة موضوع الحسم العسكري على النقاشات، من غير خروج أدلة على موافقة إيران مشاركة الأسد التصعيد، لكنها ستكون أمام مشكلة كبيرة إن شاركت، فتزيد علاقاتها مع روسيا تعقيدا وهي متردية أصلا، وقد تجد إسرائيل في ذلك فرصة مناسبة لتشديد ضرباتها على القواعد العسكرية الإيرانية في سورية.
تسليم كل أوراقه لإيران والرهان على قدرتها على نصرته هي المقامرة الأخيرة للأسد، وقد تكون سببا مباشرا للتعجيل برحيله.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية