أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

صوتان عن سوريا.. أضاعتنا وأضعناها*

أرشيف

ليس زمناً بعيداً عندما لم يكن ليخطر ببال سوري أنه سيصير لاجئاً عالمياً، وأن يتحول إلى خبر أول في مختلف وسائل إعلام العالم، وأن موته سيكون عبرة لكل من تسول له نفسه أن يصرخ من جوع أو ألم في عالم عربي يفيض بكل أشكال الويل.

هناك في سوريا تلك التي ابتعدت عنا...كان ثمة وطن مخنوق بشعارات عريضة وفضفاضة عن العروبة والمصير الواحد وقضايا مركزية للصراع، وكان ثمة أبواق في كل وقت تذكرك بالولاء للقائد والحزب والأمة الواحدة..كان كل شي واحد فقط لا خيار لأن يكون هناك أمر آخر سواه.

في سوريا تلك التي لم تخلُ من إيجابيات النظافة والأمن الواهن...كان ثمة شعور غامض بأنك مرهون للحظة موت قادمة، وأن هناك من يتربص بك، وفي أية لحظة أنت الفريسة والهدف لمجرد فقط أن تهمس بينك وبينك أن أمراً يجب أن يتغير أو يختلف.

بالأمس - هاتفان من داخل الوطن وخارجه- من سوريا تلك التي ابتعدت عنا، وآخر من بلد هجرة جديد، هاتفان للضياع والحرية، هاتفان للتناقض والألم، هاتفان لحلم تشظى لمن بقي ومن غادر، كلاهما خائفان، من بقي يريد أن يهاجر إلى أي مكان، ومن هاجر يخشى البقاء وضياع الهوية والعودة.

الصديق الدمشقي بدأ حديثه عن أخبار من هم في الخارج بحسد واضح، وكلمات تبدلت منذ أن اختار البقاء حيث كانت دمشق الأمل والمدينة التي إن عادرتها خنتها، واليوم يهمس عن من هربوا أو هجروا: لقد نجوا بأنفسهم وأبنائهم.

الهاتف الآخر بدا مذعوراً من فكرة أنه لن يعود، وأن أبناءه الذين اعتقد أنهم نجوا من المذبحة وقعوا في فخ الاغتراب، وأن عالمهم الجديد هو ما كان يخشى حصوله، ابنه اليوم بلسان جديد وأفكار جديدة عن الحرية والإرادة، وما خرج بسببه لم يكن يتوقع أن يكون ذعره اليوم..الحرية التي أريدها لها لباس آخر ليست هذه التي تحاصره اليوم في بيته.

الصديق الدمشقي محاط بالخراب الذي تركته الحرب...حياة جديدة في دمشق التي بقي لأجلها، ووجوه غريبة تحتل المكان، وما كان مخلاً للطريق بات عادياً، خطف وموت ودعارة هي ما تجود به صحف النظام، وفي الشارع طوابير تنتظر الدفء والغذاء والأمان، وأما الأولاد فلهم عالمهم الجديد الآثم المجهول.

في خوف الصوتين ثمة سبب واحد..هم أولئك الذين أرادوها بلداً بصوت واحد ولباس واحد وهتاف واحد، أولئك الذين تركوها خراباً للعابرين من كل أصقاع الأرض مرتزقة محليين وأجانب، ورايات وبيارق مختلفة.

صوتان أو صورتان لا فرق..هي حقيقة ما وصلناه من تيه التاريخ والجغرافيا، لا مستقر لمن بقي، ولا أمان لمن هاجر، وبينهما من يستثمرون في الموت والوطنية والثورة، ومن يأكلون من ترداد شعارات الأطراف المتناحرة حسب الممول والهوى الطائفي الحاقد، ومرتزقة في الخلف ينعمون ببلاهة اللحظة وميوعتها.

*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
(187)    هل أعجبتك المقالة (196)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي