مات خبّاز جزيرة "كوس" اليونانية الذي كان يطعم اللاجئين السوريين الفارين من موت إلى موت، ومعه يتذكر أولئك يدين هرمتين قويتين تقسمان رغيف الخبز بينهم بحب لا متناهٍ، ولقمة كانت تفتح باب الأمل لمن عبر بلاد اليأس والرصاص ليجد أخيراً من ينتظره على شاطئ الموت.
مات (ديونيسيز أرفانيتاكيس) اللاجئ القديم قي استراليا وهو يمد يده للعابرين بقوارب مطاطية نحو بلاده التي تعاملت بقسوة وعنجهية مع مئات الآلاف منهم، ولم ينسَ أن يذكرهم بهجراتهم القديمة إلى شرق المتوسط، حيث احتضنهم أجداد هؤلاء في فقرهم وخوفهم.
شرفاء أوروبا العجوز نعوا الخبّاز اليوناني الذين وجدوا فيه إنسانيتهم التي تضحمل بسبب صلف الثروة والقوة، ولهذا يعلن رئيس المفوضية الأوروبية في بيان له: (أوروبا خاصتي هي التي مثّلها ديونيس أرفانيتاكيس).
الأطفال المذعورين من تلاطم موج البحر، ومن صوت الرصاص والصواريخ في آذانهم الصغيرة يتذكرون يد الخبّاز التي تقدم الخبز كدليل على الإنسانية المهدورة، وهو الذي قطع وعداً على نفسه قاله في مؤتمر لتكريم مبادرته: (سأواصل إطعام هؤلاء الأطفال.. هذا وعد قطعته على نفسي).
بمقابل هذا الموت النبيل الهانئ لأرفانيتاكيس تقفز صور نقيضة من شركاء الدم والمصير في الداخل السوري وخارجه، حيث تعلو أصوات طرد السوريين من بيوت طارئة آوت ذعرهم، وحدود أقفلت في وجوههم من أقرباء وإخوة فتحت لهم الأبواب ذات يوم، ويافطات في بلدات لبنانية تمنع مرور السوري في شوارعها، ووزراء في حكومة النأي بالذات ترى فيهم مخربين ومعتدين على لقمة عيش اللبناني الغارق في حزنه وديونه.
من العواصم الرملية الشقيقة الفاخرة طرد السوريون من مهندسين وعمال إلى منافيهم دون إنذار أو سبب فقط لأنهم باتوا بلا ظهر، وهم من ساهموا في نهضة هذه المدن من رملها الحار إلى فضاء عالمهم المنار والمكيّف، وقبل ذلك كانت جموع الأساتذة تسافر من دمشق العاصمة إلى خيامهم لبناء أجيال هدمها الجهل.
في مغرب العالم العربي لم تحتمل دول كبرى هجرة العشرات من السوريين، وبقيت عائلات عالقة على الحدود لأشهر قبل أن تتلقفهم المنظمات الدولية بعد أن أغلقت في وجوههم المنافذ والبيوت.
الأكثر قسوة أنه حتى ذلك السوري المعزول في مخيم لا إنساني بات يشكل خطراً على هناءة الجيران فَتُحطم محاله الصغيرة وأبواب رزقه، ويهاجم في خيمته وبيته المؤقت فقط من أجل لعبة بين أفرقاء السياسة اللبنانية في موالاتها وممانعتها.
اليوناني الخبّاز الذي مات مع رغيفه الأبدي سيبقى في ذاكرة المهاجرين كعنوان لإنسانية عنوانها فقط شركاء الحياة والوجع، وتذكار فرح وأمل بأن الوجع هو من يوّحد أولئك المنكوبين على اختلاف ألوانهم ودياناتهم..إذ لا دين للوجع سوى الوجع.
أرفانيتاكيس الخبّاز في موته وحياته الاستثنائية هو زوربا اليوناني الراقص مع رغيفه الأبدي.
*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية