أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شقوق الكمأ والدم.. ماهر شرف الدين*

نازحون من دير الزور - جيتي

سبعة أشخاص من عائلة واحدة انفجر بهم لغمٌ أرضيٌّ، وهم يبحثون عن الكَمَأ في بادية البوكمال شرقي دير الزور، وهم الآن بين قتيل وجريح.
وكأنما دمُ السوريّ صار مكافئاً للقمته.

***
في سنوات الثورة الأولى شاعت مجازر الخبز. كانت سنة 2012 سنةَ ذلك النوع الغريب من المجازر، حيث تمَّ توثيق أكثر من ثلاثين استهدافاً للمخابز من قبل النظام، نجمَ عنها أكثر من ثلاثمئة قتيل وألف جريح، بينهم ما يناهز الستّين طفلاً.

الموتُ الذي طالبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش بأن يكون "صيَّاداً شريفاً لا يصيد الظبيَ قرب النبع"، لم يصطدْ في سوريا إلا الظباء العطشانة لحظةَ ورودها الينابيع. لقد تفنَّن الموت، الذي ركبَ طائرات النظام الحربية، في اصطياد الناس وهم يقفون في الطوابير أمام أفران الخبز.

كانون الأول 2012، وبفاصل زمنيّ لا يتعدَّى اليوم الواحد، حدثت مجزرتان رهيبتان أمام الأفران: مجزرة فرن حلفايا في ريف حماة ومجزرة فرن تلبيسة في ريف حمص. كانت مجزرة فرن حلفايا الأكثر دموية في سلسلة مجازر الخبز، بسبب ازدحام الأهالي أمام الفرن بعد انقطاع الخبز لأيام عديدة، فاستغلَّ نظام الأسد ذلك الازدحام ليرسل طائرة "سوخوي 22" قصفت تجمُّع الناس بشكل مباشر حوَّل العشرات منهم إلى أشلاء تطاير بعضها إلى مسافة مئتَيْ متر عن مكان المجزرة. والضجَّة الإعلامية التي أعقبت هذه المجزرة لم تردع النظام عن تنفيذ مجزرة.

ثانية، في اليوم التالي، أمام فرن مدينة تلبيسة ذهب ضحيتها العشرات أيضاً بين قتيل وجريح.
من فرن البصيرة في ريف دير الزور، إلى فرن داريا في ريف دمشق، إلى فرن قاضي عسكر في حلب، إلى فرن كفر عويد في ريف إدلب... بدا كأنَّ الخبز قد صدَّق المثل الشعبي الذي يقول بأنَّ "اللقمة مُغمَّسة بالدم". بل إنَّ تلك اللقمة جرى تغميسها بالسمّ أيضاً، يومَ أدخل النظام كمّيةً كبيرةً من أرغفة الخبز المسمَّم إلى قلعة الحصن في حمص أودت بحياة شخصين من بين 45 حالة تسمُّم سجَّلها المشفى الميداني يومذاك، بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".

***
ومن مجازر الأفران إلى مجازر أسواق الهال. من الخبز الـمُدمَّى إلى الخضار والفواكه الـمُدمَّاة: مجزرة سوق الهال في الباب (تموز 2015)، مجزرة سوق الهال في معرة مصرين (آب 2016)، مجزرة سوق الهال في أريحا (كانون الثاني 2018)...
صار الموت ينتظر السوريَّ على باب الفرن، وفي سوق الهال، وحتى في البراري إذا خرج بحثاً عن الكَمَأ.

حين قرأتُ خبر عائلة عزيز المطشر التي خرجت تبحث عن الكمأ وانفجر بأفرادها لغمٌ أرضيٌّ تركهم بين قتيل وجريح، تذكَّرتُ خروج عائلتي في تسعينيات القرن الفائت إلى البادية المحيطة بمدينة الشدَّادي، التي تتوسَّط الطريق بين الحسكة ودير الزور، لاستخراج الكمأ من الأرض. تذكَّرتُ كيف كنَّا نستدلُّ على وجود الكمأة بشقٍّ صغير في الأرض، فنحفر تحته بسكاكيننا، لسنتمترات قليلة، مبتهجين بإخراج ثمرةٍ تُشبه حبَّة البطاطا الصغيرة، لكنَّ طعمها لا يُشبهه طعمٌ في الدنيا.

تخيَّلتُ نفسي في تلك البراري، مجدَّداً، برحلةٍ عائليةٍ لاستخراج الكمأ، مسترشداً بتلك الشقوق الصغيرة في الأرض، والتي تحوَّلتْ، بقوَّة الحنين والمأساة، إلى ندوب في الذاكرة. تخيَّلتُ نفسي أغرزُ سكّينتي في تلك الشقوق، وبدلاً من خروج الكمأ المطمور الذي تعقبه صرخات الابتهاج... امتلأت الشقوق بالدم.

*من كتاب "زمان الوصل"
(239)    هل أعجبتك المقالة (230)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي