في العام 1999 روّج النظام لمشروع مدّ خط أنابيب ضخم لنقل المياه من جبال الساحل إلى دمشق لإروائها بعد عطش أصابها نتيجة الجفاف، خبر أفرح الدمشقيين، فهلّلوا له، وراحوا يترقبون خطوات إنجازه، ويتابعون تصريحات مسؤولي نظام حافظ الأسد عن خطط تنفيذ المشروع التي تشير إلى أنه سينهي عطش الشام بعد ثلاث سنوات، وهي مدة التنفيذ.
قررت الكتابة عن المشروع نظرا لأهميته وكنت أراسل إحدى الجرائد الخليجية، فالتقيت رئيس مؤسسة مياه عين الفيجة التي تولّت مسؤولية تنفيذه، لم أعد أذكر اسمه جيدا، كان من بيت مخلوف أو خلوف، تحدّث وأطنب لثلاث ساعات عن المشروع وأهميته، وعن اللجان التي يجري العمل على تشكيلها والمبالغ الطائلة التي سترصد له.
عند نهاية الحديث، كانت الساعة قد شارفت على الرابعة عصرا فأصر الرجل على دعوتي للغداء، وأظنه "والعلم عند الله" اعتقد أني من "جماعتو" نظرا للهجتي الساحلية، وتوجهنا إلى مطعم في بيت دمشقي بباب توما.
شرب المدير الكثير من الكؤوس، وعصفت في رأسه أعاصير السُكر، وراح يفصح عما لا يمكن أن يقوله في حالته الطبيعية، قال ما خلاصته، لا تصدق أن حافظ الأسد سيسقي "الشوام".. هو يشرب ماءهم، نعم، لكنه سيترك ماء الساحل لأهله، وأوعز بالحديث عن المشروع لأن تجّار الشام طالبوه بإيجاد حل لمشكلة نقص مياه الشرب التي تهدد السياحة ونشاطاتهم الاقتصادية، يريد أن يلقمهم حجرا ليس إلا.
ذكّرني هذا الحديث بما جرى في اللاذقية عند إقامة منشآت رياضية جديدة لاستقبال دورة ألعاب المتوسط في العام 1987، حيث طفى النفط في بئر كان يحفر من أجل تزويد مسبح بالمياه، وحينها، وراح يسيل لمدة ثلاثة أيام في الشارع الخلفي للملعب البلدي، حتى تسبب بوقف السير فيه، قبل أن يتم إغلاق البئر بالإسمنت، واستمر مغلقا حتى يومنا هذا، وأنا أعرف مكانه بدقة.
تكرر الأمر، حيث ظهر النفط مرة أخرى بعد أيام قريبا من مكان البئر عندما كان أحد المستثمرين يحفر أساسا لبناء جديد، وجرى إغلاقه أيضا، دون أن يدرك أحد حقيقة ما يجري، وسبب عدم استثمار نفط الموقعين، أو أن أحدا لم يجرؤ على الحديث فيه.
لقد دأب نظام الأسد على سرقة كل موارد سورية، وهو الذي أعلن منذ وصوله للسلطة عدم دخول النفط في ميزانية الدولة، وأطلق تلك التميمة التي ظلت تتردد حتى وفاته "النفط بأيدٍ أمينة"، وهو كذلك فعلا، تثبت ذلك أرقام الحسابات البنكية الفلكية لحافظ الأسد وأبنائه والمقربين منه في بنوك سويسرا وأمريكا الجنوبية.
نفط الساحل وغاز بحره ومياه جباله لن تستثمر ما دام النظام قادرا على توفير الحد الأدنى من هذه الاحتياجات، إنه يدّخرها ليومه الأسود المحتمل، وذلك عند اضطراره لمغادرة دمشق إلى الساحل دون رجعة، إنها الخطة البديلة عن حكم كل سورية بالاقتصار على دولة الساحل، وعندها يحين موعد الاستثمار للكنوز الدفينة التي حرم منها السوريون وتركهم للجوع والعطش واستيراد هذه المستلزمات من أموال ورصيد البلد الذي يتهاوى أصلا.
قد لا يستطيع نظام الأسد الابن تنفيذ الخطة، لكنها تبقى بديلا واردا إذا ما تمّ التقسيم، ويدرك تماما بأنه لن يلقى اعتراضا دوليا على ذلك، وهو الصبي المدلّل الذي يحظى برعاية إسرائيل والغرب وروسيا مجتمعين.
والنسق هذا (أي الخطة البديلة) ليس جديدا على العائلة، حيث سبق وأن ناشد والد حافظ وطائفيون آخرون فرنسا عدم مغادرة سوريا، وإقامة دولة علوية قبل مغادرتها إن كان الأمر محسوما.
الخطة القائمة والخطة البديلة مخطط مرسوم بعناية للإبقاء على سلطة الأسد ومنحنها الصبغة الطائفية لضمان مساندة العلويين له.
أما ما دفعني لاستذكار كل ذلك الألم والقهر، هو الفيضانات التي تهدد القرى المنخفضة بالقرب من اللاذقية اليوم، نتيجة لامتلاء سدود الساحل بسبب أوامر قديمة من مسؤولي النظام بملئها باكرا خوفا من تضرر مصالحهم ومزروعاتهم إذا ما توقف المطر قبل امتلائها.
وتبقى دمشق عطشى، وتعاني كل صيف من نقص مياه الشرب، في حين تهدر عشرات الينابيع والأنهار الساحلية في البحر، لأن الأسد لا يريد أن يعطي شيئا للسوريين من أرضهم، مما يراه ملكا خاصا له ولطائفته وربما لدولته القادمة.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية