أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها ...ياسين الحاج صالح - الحياة

تجد سورية نفسها كأنها في بيتها في صحبة تشكيلات ما دون الدولة في بلدان المشرق، لبنان وفلسطين والعراق. في الوقت نفسه قلّ أن كانت علاقاتها مسترخية مع الدول. تتحسن العلاقات هذه حينا وتتدهور حينا، لكن الاضطراب هو الصفة الأكثر انطباقا عليها. وحتى 1998 كانت علاقة سورية مع تركيا تتبع نموذج العلاقة اليوم مع فلسطين ولبنان وإلى حد ما العراق، دول الجوار. علاقات متميزة مع منظمات ما دون الدولة ومتدهورة مع الدول ذاتها في كل الحالات.

ليس هذا المنوال جديدا. الواقع أنه يسبق الحقبة البعثية ومتنها الأسدي من تاريخ البلد. فالإيديولوجية السورية، هذه التي فرزتها التجربة المكونة لسورية بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الانتداب الفرنسي، والتي تكوّن وعي الذات السوري حولها، ووجدت لنفسها سندا في العروبة، لا ترتاح إلى قيام دول في لبنان والأردن، بله احتلال فلسطين. وكانت مزدوجة المشاعر حيال العراق: فلها عين في أسواقه ونفطه، لكنه أكبر منها ومطامحه إلى استتباعها لم تكن خافية. ومن زمن احتضار السلطنة العثمانية ثم من تركيا الكمالية فتركيا الأطلسية ورثت سورية توجسا ونفورا ثقافيا وسياسيا من الجارة الشمالية لم يأخذ بالتبدد إلا في السنوات الأخيرة.

في المجمل، سورية بلد قلق، لم يستطع أن يتصالح مع ذاته كدولة، أو يسكن إلى الإهاب الذي استقر عليه في السنوات الأخيرة من الانتداب الفرنسي. ويمكن للمرء أن يميز ثلاثة روافد قلقة تصب في بحيرة القلق السورية. أولها قلق التكوين، المتولد عن تقسيم ما كانت اعتبرته النخب السورية والشامية بلدا وحدا: الأردن وفلسطين ولبنان، أجزاء منه على الأقل. ثانيها القلق الجيوسياسي المتمثل في موقع سورية بين تركيا الأطلسية والمتشددة قوميا وإسرائيل الصهيونية المسنودة أميركيا، فضلا عن تجاذب المراكز العربية، العراق ومصر والسعودية، للدولة السورية. وثالثها قلق التكوين الاجتماعي السكاني السوري، وبالتحديد وقائع التعدد الديني والمذهبي والإثني. العروبة هي الحل! ستكون السند الطبيعي الذي يمنح كيانها «المصطنع» عمقا تاريخيا ورمزيا يفتقر إليه؛ وستكون المشروع الذي يمكِّن سورية من تجاوز هشاشتها والتطلع إلى دور طليعي في تشكيل عالم العرب من حولها؛ وفي صيغة تقدمية وثورية ستكون أرضية انقلاب اجتماعي وسياسي يحول قاعدة السلطة في البلد، ويمنح شرعية لحكم نخب اجتماعية ثقافية جديدة، وتتكون حوله أكثرية وطنية جديدة. العروبة البعثية في صيغتها المذهبية أو المطلقة مؤشر على ذاك القلق ومحاولة للتغلب عليه.

وبالفعل أتاحت العروبة تهدئة القلق الكياني والاجتماعي والجيوسياسي السوري، لكن بثمن تغذية مطامح شبه امبراطورية تجمع بين صعوبة التحقيق وتجاوز الدولة السورية. كان يمكن للعلاج العربي لتوتر أعصاب سورية أن يكون ناجعا لو قام كيان عربي أو شامي أوسع. تعذر ذلك أبقى الدولة السورية، كيانا ومؤسسة حكم، هشة البنيان، يتناوشها الانجذاب إلى ما تحتها وإلى ما فوقها، إلى الأهلي والعربي. وفي العمق، يتكامل الانجذابان هذان ولا يتعارضان. فالأهلي لا يسفر عن وجهه في الداخل ولا يستغني عن قناع فوق وطني، وفي الخارج، العروبة هي العقيدة المشرعة لتجاوز سيادة الدول المجاورة والالتفاف من ورائها للاتصال بمكونات أهلية تقليدية أو محدثة فيها.

***

منذ أواسط الستينات فلسطينيا وأواسط السبعينات لبنانيا وأواخرها عراقيا، أخذت تتوفر تشكيلات ما دون الدولة بعدد متزايد. لا ريب أن لظروف «الشرق الأوسط» المتسمة بتصاعد الهيمنة الإسرائيلية الأميركية ضلعا، بل أضلاعا، في عسر السيادة الذي أخذ يبرز وضعف الاستقرار الذي أخذ يتفاقم في هذه المنطقة. ومن التقاء عسر السيادة ذاك مع ثقافة سياسية عربية مهيمنة لا ينشغل بالها كثيرا بالدولة ومنطق الدولة، ومن تكوينات أهلية أبقاها ضعف الدولة حية أو قوية، من هذا الالتقاء تكاثرت تشكيلات ما دون الدولة المنظمة، وطورت بالتدريج وجها معاديا للدولة، تشكل منظمة «القاعدة» نموذجه الأقصى، مثلها «فتح الإسلام»، و»حماس» و»حزب الله» في الاتجاه نفسه من حيث المبدأ.

سورية ضمن هذه البيئة، مصنوعة من الطين ذاته، ومعرضة تاليا للمخاطر ذاتها. تحوز ميزة بديهية مهمة وقابلة للتطوير: إن الدولة فيها محافظة على تماسكها، وإن يكن المكوّن الجهازي متفوقا على المكوّن القانوني والمؤسسي في هذا التماسك. لكن سورية تجازف بمستقبلها كدولة بتفضيلها شركاء إقليميين من ما دون الدولة، وإلفتها لهم، وإيثار رفقتهم على رفقة الدول مثلها. فلا يسع الدول أن تلعب كثيرا مع منظمات دون دولية دون أن تصاب في «دوليتها»، فيخف عقلها وتمتنع على النضج. ليس عراق صدام وليبيا القذافي مثلاً يُحتذى في هذا الشأن. ولا إيران التي يتجاذبها مبدأ الدولة القومية التي تشتغل بمنطق الدولة، ومنطق الدولة فوق القومية التي تؤثر صحبة ما دون الدول. ولا دول شرق أفريقيا التي تتبادل الكيد وإعداد الخوازيق لبعضها، فتحكم على بعضها بقزامة مستدامة.

على أننا سنلاحظ أن نموذج الدولة العربية المقابل للنموذج السوري يتمثل في دول وثيقة الصلة بالقوة الأميركية المهيمنة إلى درجة تتجاوز ما يبيحه مبدأ السيادة الوطنية للدولة (قواعد عسكرية، بروتوكولات أمنية، تفاهمات استراتيجية...). عسر السيادة ووهن الصفة الدولية هنا لا يأخذان شكل تولّد تنظيمات دون دولية بل الاستتباع لقوة فوق دولية. وهكذا لدينا دول تصاحب من هم أكبر منها، ودول تصاحب من هم أصغر منها. أو بالأصح تتعامل دولنا مع كائنات ليست من جنسها: طوائف وعشائر وجماعات دينية منظمة ومسلحة، أو الدولة الفائقة الأميركية. وملاحظة انطباق ذلك على معظم الدول العربية تثير سؤالا شائكا: هل تقبل دولنا القائمة التطورَ إلى دول وطنية سوية ومكتملة المقومات؟ أم أن انجذابها المرضي للسوبر دولة مرة، ولتكوينات دون دولية ومعادية للدولة مرة أخرى، مؤشر على تشوه خلقي قد يفضي إلى انحلالها بعد أمد يطول أو يقصر، انحلال قد يفضي بدوره إلى تشكل سياسي جديد، ربما يكون أقبل للتطور السوي؟

ليس هناك حتميات في هذا الشأن. فرص الانحلال تبدو لنا أكبر إن تمدد للأوضاع الراهنة في المستقبل. لكن قلب المسار ممكن مبدئيا. وما نرواه جوهريا على مستوى مقاربة هذه الأوضاع بالتحليل هو التفكير في الشرق الأوسط كنظام إقليمي ووحدة تحليل لا انفصام لها. النظام هذا مكون من دول منقوصة الصفة الدولية، ومن تشكيلات ما دون دولة يغلب عليها الطابع الأهلي (بما في ذلك الديني...)، ومن المحور الأميركي الإسرائيلي، الذي يجمع دولتين لا كالدول، واحدة بفعل فائض قوتها وواحدة بفعل فائض دلالها وجاذبيتها العاطفية.

(121)    هل أعجبتك المقالة (126)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي