المرَّة الأولى التي اهتممتُ فيها بمعرفة المزيد عن أدوار الأمير السعودي بندر بن سلطان كانت في سنة 2005، حين نشر موقع يتبع للمخابرات السورية اسمي، بين أسماء معارضين سوريين ولبنانيين، قائلاً بأننا من "جماعة بندر"!!
كان ذلك الموقع –المشهور آنذاك- يُدعى "فيلكا إسرائيل"، وقد أطلقتْ عليه مخابرات الأسد هذا الاسم لكي تُسرِّب عبره معلوماتٍ وتقاريرَ، تزعم بأنها إسرائيلية، تحاول إظهار المعارضين كعملاء لإسرائيل، خصوصاً بعد اشتداد الحملة الدولية على النظام إثر تورُّطه في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
في البداية ركَّز الموقع على ربط المعارضين بإسرائيل، لكنه سرعان ما تحوَّل إلى التركيز على ربطهم ببندر بن سلطان. وقد بلغ الموقع في مسعاه "البندريّ"، يومذاك، درجةً من الابتذال دفعتني إلى تحوير اسمه من "فيلكا إسرائيل" إلى "فيلكا بندر".
تلفزيون مثل "المنار"، وقد كان يحظى بمتابعة واسعة في سوريا، راح يستلُّ تلفيقات الموقع، ضمن تنسيق مخابراتيّ واضح، ليُبرزها كعناوين في نشرات أخباره وبرامجه الحوارية. وقد كانت "ميزة" ذلك الموقع -إذا جاز لنا الحديث عن ميزة ونحن نتحدَّث عن نفايات إخبارية سامَّة- أنه قدَّم نفسه كموقع استخباراتي إسرائيلي متخصّص بنشر المعلومات "السرّية"، وفي الوقت ذاته كان ينشر مقالاتٍ ونصوصاً (ملفَّقة) موقَّعةً بأسماء معارضي النظام في سوريا ولبنان بصفتهم متعاونين معه (نشر الموقع باسمي أكثر من عشرة نصوص ومقالات مسيئة، بل إنه نشر خبراً أعلن فيه أني تسلَّمتُ إدارة قسمه الثقافي!). وقد أصدر معارضو النظام، تباعاً، العديد من بيانات التوضيح للرأي العام الذي أرادت مخابرات الأسد تضليله، إلى أن انكشف أمر هذا الموقع للجميع، وبأنه لا علاقة لإسرائيل به، بل هو مجرَّد أداة مخابراتية تضليلية لنظام الأسد لتشويه سمعة كلّ من قال له "لا"، في سوريا ولبنان.
والحقيقة أنَّ ما أعاد إلى ذهني تلك الذكرى، هو الحديث الصحافيّ، المطوَّل والمثير، الذي أدلى به بندر بن سلطان لموقع "إندبندنت العربية"، والذي جاء سردياً أشبه بكتابة المذكّرات، ضاجَّاً بالعديد من التفاصيل المهمَّة عن كثير من الأحداث في المنطقة والعالم، والتي كان للأمير السعودي دورٌ فيها بحكم المناصب الحسَّاسة التي كان يتقلَّدها، سواء كرئيس للاستخبارات السعودية، أو كسفير للرياض لدى واشنطن لأكثر من 22 عاماً. ومن بين تلك التفاصيل والأحداث، والتي يُروى بعضها للمرَّة الأولى، ما يتَّصل بسوريا وعائلة الأسد، وتحديداً شخصية بشار الأسد.
فمن بين القصص العديدة التي أوردها بندر بن سلطان حول بشار الأسد، ثمَّة ثلاث قصص تستحقّ التوقف عندها، ليس فقط من أجل تفسير بعض الأحداث التي كان بعضنا يستغرب حدوثها مع بشار (كإصرار بوتين على إهانته بروتوكولياً وبشكل متكرّر)، بل أيضاً لإلقاء بعض الضوء المساعد على سَبْر أغوار شخصية هذا الشاب المهزوز الذي جاء، بصدفةِ موت أخيه الأكبر، إلى الحكم، وحصلت في عهده أكبر حملة إبادة سكَّانية في تاريخ سوريا منذ اجتياح المغول لبلاد الشام في القرن الثالث عشر الميلادي.
الحادثة الأولى: "نبوءة" بوتين
سنة 2012 التقى بندر، وكان ما يزال رئيساً للاستخبارات السعودية، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليجسّ نبضه بخصوص موقفه الفعليّ من الثورة في سوريا ومصير بشار الأسد، فإذا ببوتين يقوم بلوم السعوديين على ما أسماه "تضخيم دور بشار"، قائلاً لبندر: "أنتم من رتَّب له زيارة لشيراك، ثمَّ زيارة لندن. هل تعلم بأنني دعوته أكثر من مرَّة لزيارة موسكو ولم يأتِ؟ لكن أنا باقٍ هنا، وستأتي اللحظة التي يأتيني فيها حَبْواً على يديه ورجليه".
هذه الحادثة التي لم يُكذّبها الروس، بل على العكس من ذلك قاموا بتأكيدها بشكل غير مباشر من خلال تغطية الإعلام الروسي لحديث بندر، تُفسِّر لنا كلّ ذلك الازدراء البروتوكولي المتعمَّد الذي يواظب بوتين على القيام به مع بشار الأسد، والذي حاول إعلام النظام إظهاره بمظهر الأحداث العفوية التي تأتي في سياق العلاقة الدافئة بين الرجلين (بلغ هذا الازدراء أقصاه يوم 11 كانون الأول 2017 في اللقطة الشهيرة لضابط روسي وهو يمسك الأسد من ذراعه ويمنعه من اللحاق ببوتين أثناء زيارة الأخير لقاعدة حميميم).
فإذاً، كلّ ما حدث من "أخطاء" وإهانات في البروتوكول لم يكن عفوياً، إنما هو انتقام متأخّر من بوتين على رفض بشار الأسد تلبية دعواته لزيارة موسكو، قبل الثورة، إرضاءً لزعماء الغرب.
الحادثة الثانية: صبيانية بشار
عدم تلبية رفيق الحريري للطلبات التي كان يرسلها إليه بشار الأسد (قبل أن يصبح رئيساً) ستُكلّفه حياته. هي ذي خلاصة القصة التي يرويها بندر بن سلطان عن انتقام بشار الأسد من الحريري فور وصوله لرئاسة سوريا، من التضييق عليه، إلى شتمه وإهانته في اللقاء الشهير بدمشق وتهديده بتكسير رأسه (ورأس وليد جنبلاط) إذا لم يُنفّذ أوامر رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك إميل لحّود، وانتهاءً باغتياله المدوّي في 14 شباط 2005. فقد كان الحريري –والتزاماً بأوامر حافظ الأسد نفسه- يطلب موافقةً شخصيةً من الأسد الأب على أيّ طلب يبعث به الأسد الابن. وهذا الأمر أوغرَ صدر بشار على رفيق الحريري، فسارع إلى الانتقام منه غير آخذٍ بالحسبان وضعيته الجديدة كرئيس دولة.
هذه الحادثة تفضح الجانب الصبيانيّ المسيطر في شخصية بشار الأسد، والذي كان له دورٌ لا يخفى في إيصال سوريا إلى حالها اليوم. وليس أدلّ على خطورة ذلك الجانب من طريقة تعامل الأسد مع قضية ابن خالته العميد عاطف نجيب رئيس الأمن السياسي في مدينة درعا، أو ضحكاته ونكاته أثناء خطابه الأوَّل في مجلس الشعب بعد اندلاع الثورة.
الحادثة الثالثة: إهانة "الرئيس"
كان غضب الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز مضاعفاً، بعد اغتيال رفيق الحريري ومراوغة بشار الأسد وحنثه بالعهود، لأنَّ السعودية –وباعتراف بندر- كانت من أكبر داعمي نظام الأسد. بل إن الملك عبدالله، حين كان ولياً للعهد، أصرَّ على البقاء في دمشق يوماً إضافياً، بعد وفاة حافظ الأسد سنة 2000، كنوع من الدعم لبشار لكي "لا يلعب أحدٌ بذيله" كما ينقل بندر عن لسان الملك الراحل.
وفي آخر زيارة لبشار الأسد إلى السعودية، وبحضور الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز (أمير الرياض آنذاك)، والأمير الراحل سلطان بن عبد العزيز (ولي العهد آنذاك)، والأمير الراحل نايف بن عبد العزيز (وزير الداخلية آنذاك)، إضافة إلى فاروق الشرع الذي رافق الأسد في زيارته تلك، وجَّه الملك عبدالله أكبر إهانة يمكن تُقال لرئيس جمهورية، حيث قال له: "أنت كاذب".
ولم يتجاوز ردّ فعل بشار على هذه الإهانة، التي تطابق الشتيمة، حدودَ تذكير الملك بأنه "رئيس الجمهورية العربية السورية". ليُعيد الملك إهانته بالقول مجدَّداً: "أنت كاذب"، ثمَّ يغادر الاجتماع.
لقد سمحَ بشار الأسد لأحد الذين وصفهم بـ"أشباه الرجال" أن يقوم بإهانته بشكل مباشر، وعلى مرأى من نائبه فاروق الشرع وبقية الأمراء، دون أن يجرؤ على ردّ الإهانة بمثلها، وإنما اكتفى -كما ينقل بندر- بـثني قدميه تحت الكرسي بعد مغادرة الملك.
وبين شخصية المهان والـمُذلّ على يد الملك عبدالله بالأمس، وشخصية المهان والـمُذلّ على يد الرئيس بوتين اليوم، يثني بشار الأسد قدميه تحت الكرسي أكثر فأكثر.
*معارض وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية