الخنوع نسق حياة، أو فلسفة غير متعمدة، كتب عنها كثير من اختصاصيي علم النفس والاجتماع والفلسفة، أطلقوا عليها اسم "مازوشية" وتعنى استمراء الذّل والتلذّذ بالتعذيب، وكيفما كان تفسيرها، يعيشها اليوم قاطنو المناطق الخاضعة لحكم الأسد بصيغة ما.
لم يثوروا طلبا للحرية والعدالة، ولكن الغريب أنهم لم يثوروا (أقله حتى الآن) طلبا لكرامتهم، ليس هذا وحسب، بل باتت المأساة التي يعيشونها تهدد حياة أطفالهم، فالجوع والبرد قد ينال منهم في كل لحظة، وهم يتفرجون على ما يجري كأنهم غير معنيين بالأمر، أو أن لا خيار أمامهم سوى الخنوع أو الموت أذلاء.
يتوزع سوريو مناطق النظام بين شبيحة وقَتَلَة، وهؤلاء من شديدي الموالاة للنظام، ولا ينحصرون بطائفة محددة كما قد يتصور البعض، يضاف إليهم موالون، لكن لم يحملوا السلاح بوجه شركائهم في الوطن من المعارضين، وهناك الرماديون ممن يتبنون فكرة "كنا عايشين"، أما الغالبية فهي من المعارضين الصامتين لأسباب متعددة منها المصالحية ومنها الخوف وغيرها.
وأيا كانت أسباب صمت هؤلاء جميعا على الإذلال الذي يمارسه عليهم نظام القتل والإجرام، فهي لا تبرر لهم ما هم عليه، فالتشبيح يرتفع بشكل يتناسب عكسا مع انخفاض حدّة المعارك ضد المعارضين التي تؤدي إلى انحسار عمل أعداد كبيرة من الشبيحة وعناصر الأمن والجيش وتفرّغهم لأعمال التشبيح التي اعتادوها قبل الثورة، وأدمنوها بوتيرة تصاعدية خلالها.
تشبيح بات ممنهجا يقوده النظام، يمنع الغاز والكهرباء عن سكان مناطقه من مؤيديه وغيرهم في أشد الشتاءات قساوة منذ سنوات، غير آبه بمن يموت أو ينفد فيعيش، وأي عيشة تلك؟
ومما يزيد من قسوة هذا التشبيح تشبيح من نوع آخر يمارسه مسؤولو النظام من خلال اتهامهم للمواطنين بالكذب والعمالة عندما يتحدثون عن غياب أو نقص الغاز وتقنين الكهرباء، وقد أحصينا حتى ساعة كتابة المادة تصريحات لرئيس مجلس شعب النظام ووزير ماليته ومدير كهرباء اللاذقية تنفي وجود أزمة غاز أو كهرباء، هكذا بكل استغباء وتكذيب فجّ، إنهم يسدّون عين الشمس بغربال.
ولم يقتصر إذلال الأسد لأنصاره على ما سبق، بل أوعز للمأجورين من الفنانين لممارسة السخرية من احتياجات البسطاء، حولوا الأزمة إلى نكتة ودراما مبتذلة، تحمل صورهم المقزّزة أقذر أنواع الاستهتار بآلام المنكوبين بالفقر الجوع والبرد.
يضاف إلى ذلك أفراخ أفاعي آل الأسد الذين يخرجون بين الفينة والأخرى مأخوذين بالمخدرات وعربدة المال والسلطة، ليتهموا السوريين ومن بينهم أنصار الأسد بالخيانة والمشاركة بالمؤامرة الكونية على سوريتهم، أحدثهم "ابن بديع الأسد أحد أقارب رئيس النظام" يشتم بأقذع العبارات كل من يطالب بجرة غاز ليطبخ لأطفاله أو يشعل مدفأة حتى لا يقتلهم البرد، وبالطبع هي انعكاس لتربية وصفات هذه الأسرة الحاكمة.
إن جزءا يسيرا فقط من القهر الذي تتسبب به اليوم ممارسات النظام على الخاضعين لحكمه كاف لقيام عشرات الثورات ضده، فكيف والحال وصل إلى ذروة لم يعد معها أي تبرير للصمت والاستمرار في الخنوع مقنعا، لكنه إدمان الذل الذي يأبى أن يغادر النفوس، ومن غير المقبول بحث البعض "ومنهم معارضون" عن مبررات لهذا الموت غير المعلن.
وفي النهاية، حان وقت تحرير الكرامة، بعد كل ذلك القتل والإجرام متعدد الأشكال، ألم تمتلئ صدور القاعدين ألما وحقدا على المجرم، غريب جدا وخارج عن قوانين الطبيعة والإنسانية أن لا يحدث ذلك، إن تحرك الداخل بإضرابات واعتصامات أو بأي صيغة، بات بمثابة تفريق بين بشرية أولئك وحيوانيتهم، لا سيما أنهم لم يعودوا يملكون شيئا يخسرونه، تحرك كهذا، بغض الطرف عن نتائجه، يعيد كرامة السوري إلى نسقها الطبيعي، ويفتح الباب واسعا أمام فرصة مصالحة يصعب أن تأتي بغير هذا.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية