بحرارة استقبل الرئيس السوري المشاركين اللبنانيين، في حضور نائبة الرئيس للشؤون الثقافية الدكتورة نجاح العطار.
وفي التفاتة خاصة إلى المشاركين اللبنانيين، رغب في حصر طرح الأسئلة بهم رغبة منه في الاستماع إلى ما استخلصوه من مناقشات المؤتمر. فإذا بمواقف الأسد أتت إجابات عما أثاره المتحاورون، وتتويجاً لرعايته المؤتمر، مبدياً الموافقة المسبقة على دعم عقد مؤتمر مماثل في بيروت. ولم يتردد في الإجابة المسهبة عن تفاصيل العلاقات السورية ـــــ اللبنانية. إلا أنه حرص في بداية الحوار على وضع إطار عام له، ولسبل إرساء علاقات ثنائية سليمة، بقوله إن من الضروري أن «لا يقتصر الحوار على الدول، وأن يتعداها إلى الشعوب ونخبها التي تستطيع بدورها التعبير عن مصالحها. فلا يكتفى بمعالجة المشكلات بين الأنظمة والدول.
هنا الدور الفكري أساسي، وهو الطابع الفعلي للمؤتمر الذي تعقدونه. من دون مضمون فكري لا قيمة لأي عمل أو هدف نخوضه. حتى في أبسط الأعمال والنشاطات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، لا يسع الوصول إلى نتائج جدّية بلا مضمون فكري، فكيف بالنسبة إلى العلاقات بين الدول وبين الشعوب؟ تحدثنا عن أخطاء ارتكبت منذ عام 1976 وعن أخطاء ارتكبت بعد اتفاق الطائف، إلا أن الخطأ لا يأتي إلا بعد خطأ. لذا يتعيّن التشديد على دمج الفكر بالممارسة، بل أرى أنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. اليوم في نظرتنا إلى العلاقات السورية ـــــ اللبنانية، هناك فكر وممارسة، وهما اللذان سيوصلاننا إلى مستقبل صحيح لعلاقات البلدين».
سألته «الأخبار» عن موقفه من الاعتراف المتبادل بين البلدين بارتكاب أخطاء في العلاقات السورية ـــــ اللبنانية، فأجاب: «إذا لم تكن هناك أخطاء فلا حياة بشرية. عندما قلنا إن هناك أخطاءً ارتكبت فهو من باب رفض هذا الخطأ والعمل على تصحيحه، لا من باب الشعور بالذنب. قلنا هذا الأمر مراراً منذ عام 2005 من أجل السعي إلى تطوير العلاقات. من الطبيعي التحدث عن أخطاء. وقد تكون ناجمة عن مرحلة سياسية معينة. لكنّ الخلاف والخطأ يمكن أن يقعا داخل العائلة الواحدة، لا بين بلدين فقط. يقع بين الإخوة وبين الزوجين. أي علاقة بين اثنين تفسح في المجال أمام ارتكاب أخطاء. أما ألا تقع أخطاء، فهو إشارة إلى علاقة جافة. لذلك نرى أن انعقاد هذا المؤتمر بداية لمعالجة الأخطاء. الأمر لا يقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل أيضاً على الجانب الاقتصادي الذي شهد بدوره أخطاءً عندما تراجع التكامل الاقتصادي بين البلدين. ويصحّ ذلك أيضاً على النطاق الثقافي. وأنا أعتقد أن الأمر ليس مجرّد اعتراف بالخطأ، بل هناك تبادل للمسؤولية، ومسؤولية مشتركة حيال ما حصل، والذي يشكل إحدى وسائل تجاوز الأخطاء تلك وصولاً إلى تطوير العلاقات. في مثل مؤتمركم، من الضروري الخوض في كل القطاعات المعنية بعلاقات البلدين، كالشؤون الاقتصادية والتربوية والاجتماعية».
ورداً على سؤال لأحد المشاركين، قال الأسد: «عندما نقول هناك أخطاء، فهذا يعني أننا نجري مراجعة، وإلا لما كنا اكتشفنا الخطأ. لم نتحدث في تفاصيل الأخطاء، لكنّ الأمر البديهي أن اتفاق الطائف الذي وضع لإنهاء الحرب في لبنان، أوجد مرحلة انتقالية مكّنت أصحاب المصالح الطائفية والسياسية من الاضطلاع بدور سلبي. ولأن المرحلة الانتقالية طالت، فقد وقعت الأخطاء، وكنا مضطرين إلى التعامل مع بعض أصحاب هذه المصالح من أجل وضع حدّ للحرب وإعادة الاستقرار إلى لبنان، وكانا أولوية لا مفر منها. لكن لبنان لم ينتقل إلى المرحلة التالية، ولا النظام السياسي في لبنان الذي سبّب اضطرابات وحروباً تطور. وهذا شأن لبناني. إلا أن دورنا يقتصر على المساعدة. طبعاً هناك جانبان في الموضوع: أحدهما يعبّر عن سوء نيّة، كالفساد والإهمال، والآخر عن حسن نيّة هو اضطرارنا إلى التعامل مع أمر واقع لبناني ليس لنا أن ننقلب عليه أو نكون ضده. لذا كانت المرحلة انتقالية فوقعت الأخطاء. عندما تعاملنا مع قوى طائفية، خسرنا جزءاً من اللبنانيين من جرّاء المصالح الطائفية، ولم ننجح في مغادرة المرحلة الانتقالية. وهذا أحد أخطائنا».
وسأل الأسد: «مَن يمتلك الرغبة في التغيير في لبنان، الطبقة السياسية أم الشعب؟ لدى بعض الدول النخب هي التي تجري التغيير. لكن دور سوريا حيال لبنان هو أن تساعد مَن يريد أن يقف على قدميه لتحقيق هذا الهدف، لا أن تقف هي نيابة عنه. نحن لا نستطيع أن نحل محل اللبنانيين. لذلك يتوقف دورنا على مدى مساعدتنا مَن يريد العمل لا أكثر. ليس لدى القيادات الميليشياوية والطائفية رغبة في التغيير. ولا يمكن تحقيق تغيير من دون آلية. نحن على احتكاك مباشر بالمجتمع اللبناني كما هي حال احتكاك المجتمع اللبناني بالمجتمع السوري. وهذا من دروس الماضي».
ولاحظ أن «أي موقف لبناني بات يحتاج إلى إجماع، الأمر الذي لا يسهل تحقيقه، لذا تتوقف مساعدتنا على ما يطلبه منا الموقف اللبناني. إذاً يتوقف الموضوع على اللبنانيين وعلى مثقفيهم ونخبهم. وأنا أسأل: هل هناك آلية للتغيير في لبنان كي نساعد؟».
وأوضح الأسد أن انسحاب الجيش السوري من لبنان على مراحل كان أحد القرارات التي عمل عليها في نهاية التسعينات، وخصوصاً مع انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، و«كنت قد أخذت في الاعتبار أنه أصبح للبنان جيش قوي يستطيع تسلم مسؤولياته الأمنية والعسكرية. لذلك قررت مذّاك تحديد خطوات للانسحاب من لبنان. سوريا خارج لبنان أقوى منها فيه. وسوريا خارج لبنان تتيح علاقات بين البلدين، مع الدولة اللبنانية ومع اللبنانيين، أفضل بكثير من وجودها داخله. وكنت أعلنت مراراً أن لا عودة للقوات السورية إلى لبنان. لا أحد يسعه القول إن العلاقات الأمنية والعسكرية هي التي تقدّم أفضل إطار للعلاقات السياسية. حصلت مساومات كثيرة معنا حيال الموقف من لبنان، وفي كل مرة كررنا الجواب عليهم، وهم يعرفون الآن تماماً موقف سوريا. سوريا تكون قوية مع لبنان قوي، ولنا مصلحة أكيدة بوجود لبنان قوي. نحن لا ندعم حزب الله لأنه فصيل لبناني، بل لكونه مقاومة في وجه إسرائيل».
ورداً على سؤال، قال: «السياسة تجارة ولكنها بأخلاق. نحن مارسنا السياسة على هذا النحو. حسمنا خياراتنا في العلاقة مع المقاومة ومع إيران التي نعتبر علاقتنا بها استراتيجية». ولاحظ أن «الحالة الطائفية هي ثمرة عقل مسطّح. ومن أجل أن نحمي أنفسنا من حال كهذه، ينبغي تعقيل العقل كي يكون قادراً على التفكير. لذا لا بد من وجود فلسفة تكون قادرة على مقاومة الأفكار الخطيرة التي تواجهنا كالتطرّف مثلاً. كأن يكون هناك واعظ جاهل، ولا أريد أن أحدد انتماءه، يعمل على استباحة عقول الناس، لا بد من مواجهته. عندما تكون لدينا فلسفة في السياسة نواجه هذا الخطر. وعندما كنا نعجز عن مواجهة هذه الأخطار، عزونا ذلك إلى تخلّفنا. وأنا أعتقد أن المعالجة الجديّة هي بالتربية والثقافة، بالمدرسة والإعلام. هنا يأتي دور المثقف كي يشرح الأمر للناس».
وتحدث الأسد عن مؤتمر العلاقات السورية ـــــ اللبنانية، داعياً إلى إرساء قاعدة قطاعات مشتركة يجري البحث فيها، وقال: «هناك ميزة مشتركة بين سوريا ولبنان هي أن مغتربينا كثر في الخارج، وأحوالهم حيث هم أفضل من أحوالهم في بلادهم. والبلدان متميّزان على مستوى الكفايات. لذا يمكن طرح محور التعاون على مستوى المغتربين»، وشدد على ضرورة إجراء حوار بين قطاعات البلدين.
ورداً على سؤال، قال الرئيس السوري: «البعض في لبنان يتحدث عن المجلس الأعلى السوري ـــــ اللبناني كأنه صورة للوصاية، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق. أنتم تعلمون أن المجلس لا يعمل كثيراً، ويمكننا إشراكه في الحوارات التي أدعو إليها. وكذلك يمكننا إشراك السفارتين. لكن ينبغي أن يعرف بعض اللبنانيين، خلافاً لما يشيعونه، أننا لا نتمسك ببقاء المجلس الأعلى. كنت قد طرحت مع الرئيس نجيب ميقاتي والرئيس فؤاد السنيورة موضوع المجلس الأعلى والاتفاقات بين البلدين، وأبديت الاستعداد لتعديلها وإلغاء ما يمكن إلغاؤه. لم يطل الرئيس ميقاتي في الحكومة، ولم يجب الرئيس السنيورة ومؤيّدوه. رفضوا ما عرضته. قلت إنني مستعد لمناقشة كاملة للاتفاقات، ولكنهم غير جادين في البحث في الأمر وتجاهلوه. أنا مستعد للاستغناء عن المجلس الأعلى إذا طالب اللبنانيون بذلك. بحثت مع الرئيس ميشال سليمان منذ التقينا للمرة الأولى في باريس (14 تموز 2008) في مناقشة الاتفاقات. وكذلك وزراؤنا مع بعض الوزراء اللبنانيين. مع هؤلاء فقط هناك قنوات اتصال حول هذا الموضوع.
أما الفريق الآخر فلا علاقة لنا معه. عندما يتحدثون في لبنان عن أن القرارات تحتاج إلى إجماع، فهل هناك إجماع او اتفاق لبناني على إلغاء المجلس الأعلى؟ ليقولوا لنا لا يريدونه فنلغيه، وليقولوا لنا إنهم لا يريدون الاتفاقات فنلغيها، أو يريدون تعديلها فنعدّلها. كان قد طُرح الأمر في مجلس الشعب على أثر الأحداث الأخيرة مع لبنان، وطالب مجلس الشعب كرد فعل بإلغاء الاتفاقات. لم أستجب لأنني لا أتصرّف وفق رد الفعل، ولا أريد أن أتصرّف منفرداً. ليعلم الآخرون أن مصالحنا تستمر في العمل إذا ألغي المجلس الأعلى والاتفاقات، فهي لا تتوقف عليهما. إذا كان اللبنانيون يريدون ذلك، فأنا جاهز».
ورداً على سؤال عن ترسيم الحدود اللبنانية ـــــ السورية، قال الأسد: «هناك محاضر ترسيم للحدود وأعمال بدأت، كما يجري ترسيم الحدود مع الأردن. لكن الموضوع المطروح الآن ليس ترسيم الحدود بل تسييس المزارع. نحن مستعدون لترسيم الحدود كلها باستثناء مزارع شبعا، لأن اسرائيل لا تزال تحتلها. طرح هذا الموضوع يصبّ في خدمة إسرائيل. فاتحني الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مراراً في الموضوع، وقلت له إنه لا شأن للأمم المتحدة في ترسيم الحدود، وليس لها إلا أن تتبلّغ الترسيم لاحقاً بعد أن يحصل بين البلدين. الترسيم يجري بين البلدين المعنيين، ثم يرسل بلاغ بذلك إلى الأمم المتحدة لأخذ العلم. هناك حل واحد للترسيم من مراحل ثلاث: انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا، ترسيم لبنان وسوريا حدودهما في مزارع شبعا، إعلام الأمم المتحدة بالأمر. إذاً يجب أن يزول الاحتلال أولاً».
وقال: «إرسال ورقة إلى الأمم المتحدة بالترسيم قبل زوال الاحتلال لا يحرج إسرائيل أبداً حيال الغرب، لكونها تلعب على تناقضات اللبنانيين وتحاول استغلالها في ما بينهم، وضد سوريا. هي تحتل لبنان بورقة ترسيم ومن دونها».
وسئل عن المفاوضات غير المباشرة السورية ـــــ الإسرائيلية، فقال: «ما حصل ليس مفاوضات غير مباشرة، بل هو مشابه لما قام به وزير الخارجية الأميركي جايمس بايكر في مطلع التسعينات في جولات مكوكية بين سوريا وإسرائيل من أجل وضع أرضية مشتركة لمفاوضات بين البلدين. وهذا ما يحصل من خلال تركيا التي تؤدي الدور نفسه. ليست مفاوضات إذاً».
وأكد أنه أطلع الرئيس اللبناني على نتائج تلك الجهود، قائلاً: «طبعا هناك تنسيق مع الرئيس سليمان وتحدثت معه في هذا الموضوع. لم يكن هذا التنسيق حاصلاً قبلاً لأنه لم يكن لدينا حوار مع لبنان والاتصالات مقطوعة. بعد انتخاب الرئيس سليمان تغيّر الأمر. لنا كسوريا مصلحة في أن لا نكون مستقلين عن لبنان وعن الموقف العربي من التفاوض، لأن ذلك يضعفنا».
ورداً على سؤال عن مصير المفقودين اللبنانيين لدى سوريا، قال الأسد: «بعيد انتخابي رئيساً، أفرجت عن 40 موقوفاً لبنانياً من دون طلب من أحد وبمبادرة شخصية. أما الموقوفون حالياً في سوريا فهم بجرم التعامل مع إسرائيل والتجسّس على سوريا، ويخضعون للقوانين السورية، وليس في الإمكان إطلاقهم لأنهم ينفذون أحكاماً قضائية. لكن الموضوع كما يطرحه البعض ويتحدث عن لائحة من 800 مفقود في لبنان يسير في اتجاه معاكس بالادعاء أنهم في سوريا. ماذا أفعل بهم هنا؟ هل أقايض بهم؟ طرح الموضوع غير منطقي. هناك أعداد كبيرة ممّن يقال إنهم في سوريا كانوا قد قتلوا في لبنان. وهم إما في مقابر جماعية في لبنان وإما لم يدخلوا سوريا أبداً. تكلموا عن الموقوفين الـ15 بحكم قضائي في سوريا، وهذا صحيح، وهذه شهادة لسوريا لا ضدها. لكن هل ينبغي أن يُنسى أن الحرب الأهلية نشبت في لبنان لا في سوريا. لذلك يتعيّن التثبّت أولاً من مصيرهم ومكان وجودهم في لبنان قبل اتهام سوريا التي ليس لديها أي معتقل أو موقوف لبناني خارج الأحكام القضائية».
وأضاف: «إن القول إنهم اختفوا في سوريا لا يوصل إلى الحل ما دام الموضوع يطرح سياسياً ولغايات استغلاله. لذا أقول لبعض اللبنانيين أن يُخرجوا من ذواتهم الشياطين حتى نتوصل إلى حل لهذه المشكلة. إذا كان هؤلاء يريدون اللجوء إلى الأمم المتحدة، فإن لدينا نحن ملفاً مقابلاً هو اختفاء 1200 سوري في لبنان. أين هم؟ أنا أدعو إلى حل عقلاني وبحث الموضوع بشفافية داخل لبنان أولاً للتحقق من كيفية اختفاء هؤلاء أو مقتلهم. عندما دخل الجيش السوري إلى المناطق الشرقية مطلع التسعينات جوبه بإطلاق نار ومدافع وردّ عليها، فهل مَن قتل في هذه المعارك مفقود لدى سوريا؟».
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية