ماسحو الأحذية الحقيقيون... ماهر شرف الدين*
البيان الذي أصدرته بلدية بيروت حول مقتل الطفل السوري أحمد الزعبي، أكمل فصول المأساة.
***
للمساعدة في إعالة أسرته اللاجئة في لبنان، عمل الطفل أحمد الزعبي (14 عاماً) ماسحاً للأحذية على أرصفة بيروت. وقد شكى لأهله، أكثر من مرَّة، قيام شرطة البلدية بضربه وتكسير عدَّته البسيطة. وحين فُقِدَ أحمد يوم 15 كانون الثاني 2019 بدأت العائلة عملية بحثها عنه في المستشفيات والمخافر، إلى أن استرشدت إلى مكانه بعد ثلاثة أيام، بواسطة كاميرا مراقبة كشفت عن مطاردة عناصر شرطة البلدية له. وقد وُجدتْ جثَّة هذا الطفل متفسِّخة في مَنْوَر (فتحة التهوئة) بنايةٍ سقط فيه أثناء هربه من الدورية.
البيان الذي أصدرته البلدية لم يكتفِ بوصف الزعبي بـ"الشاب" للتخفيف من هول الجريمة، بل -ولتبرير مطاردة الشرطة له لمسافة طويلة والتسبُّب بسقوطه وموته- اتهمه أيضاً بـ"سرقة صناديق الزكاة والصَّدَقات الموضوعة قرب فندق البريستول"! هذه التهمة التي ثبتَ زورها وكذبها من خلال شهادة المسؤول عن تلك الصناديق والذي كذَّب رواية البلدية عن وجود شكوى سرقة سابقة بحقّ الطفل المغدور.
زملاء الشرطيين الذين تسبَّبوا بمقتل الطفل، أكملوا المهمَّة بمنع أسرته من تصوير الجثة أثناء سحبها من مَنْور البناية. وبلدية بيروت حاولت تجاهل الجريمة، كما لو أنها لم تحصل، إلى أن فاضت صفحات التواصل الاجتماعي بتفاصيل ما حدث، فاضطرَّت للخروج ببيانٍ، لا يُضاهى في السفالة، حوَّلت فيه الطفل الضحية إلى "شابّ" و"سارق"، وركَّزت فيه على صفة "ماسح الأحذية" في تكرار مفضوح يشير إلى محاولة التقليل من القيمة الإنسانية للضحية، واختتمته بخردةٍ من كلمات التعاطف الرثَّة.
***
في مطلع بيانها المذكور تقول البلدية: "أثناء قيام دورية بمهمَّة منع المتسوّلين وماسحي الأحذية من التجوُّل في شوارع بيروت... إلخ".
لقد استوقفتني هذه الجملة تحديداً لأنها صدرتْ عن جهة رسمية في بلدٍ حكَّامه ليسوا أكثر من متسوّلين وماسحي أحذية لحكَّام الخليج ودول الغرب وإيران. وقد كانوا، قبلاً، ماسحي أحذية لضبَّاط الأسد أنفسهم الذين قاموا بتهجير الطفل أحمد الزعبي وعائلته إلى لبنان.
لقد استوقفتني هذه الجملة تحديداً لأنها صدرت عن ماسحي الأحذية الحقيقيين وهم يجتمعون لاغتيال "ماسح الأحذية" المزيَّف.
***
مات أحمد الزعبي طفلاً بريئاً لم يعرف من الحياة إلَّا رصيفها. مات هارباً بصندوق البويا الذي حاول به تلميع الأشياء من حوله بينما هو يُلمّع أحذية المارَّة. مع ذلك أنهى حياته بطلاً، ككلّ الضحايا الذين يتحوَّلون أبطالاً بفضل قوَّة المأساة التي عاشوها.
مات أحمد الزعبي طفلاً بطلاً حاول ماسحو الأحذية الحقيقيون تلويث موته التراجيدي باتّهامه بسرقة صناديق زكاةٍ يبدو بأن الفقراء أمثاله لا يستحقُّونها.
مات أحمد الزعبي في مَنْورٍ مظلمٍ لبناية لا يعرف فيها أحداً، مع صندوقه وفرشاته التي مسح بها في حياته أحذية المارَّة، ومسح بها في موته وجوهنا الغبراء.
*معارض سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية