منبر الموتى...

ثمة رجل ينتمي إلى الذين يجزمون بأن الثورة قد خَرَّبَها السياسيون والمثقفون والفنانون المعارضون، وأنها لو اقتصرت على الثوار والمجاهدين والمُرابطين لانتصرت من زمان..
كتب هذا الرجل على الفيسبوك زاعماً أن مسلسل "الولادة من الخاصرة 3"- (منبر الموتى) قد وُجد لأجل تلميع صورة النظام السوري، أو ربما كان نوعاً من التنفيس، وأنه غير مطابق للواقع، وأنه، باختصار، ملغوم! وزاد في الطين بلة، بعد أن رأى إحدى الحلقات، فكتب يقول:
ما هذه المخابرات السورية المثالية التي تعيد للمواطن أمواله بل تعيدها له زائدة عن مبلغها الأصلي؟
دار حوار حول هذا البوست الفيسبوكي، أنا أعتبره أفضل من أي نقد للمسلسل، لسبب بسيط، أن الناس الذين تشاركوا في نقده هم كثر (أكثر من رأي)، وهم من اتجاهات فكرية مختلفة، أضف إلى ذلك كونهم متباينين ذوقياً.
تحدث أحد المشاركين عن مسألة الاجتزاء، موضحاً أنه ليس من العدل محاكمة المسلسل كله من خلال هذا المشهد الذي يصب في مصلحة ضابط المخابرات. وكتب آخر أنْ نعم، يوجد في الواقع ضباط مخابرات جيدون.. حتى ولو نظرنا إليهم من منظور الثورة، بدليل أنهم كانوا
يساعدون المعتقلين، في الأشهر الأولى للثورة، ويحنون عليهم، ويأملون بأن يتراجع النظام عن الحل الأمني، لينعم الناس بشيء (ولو نسبي) من الحرية والكرامة!.. ولما تيقنوا أن النظام لا يجيد غير الحل الأمني الإجرامي، انشقوا، وبعضهم لم يبلغوا هذا المنفذ، إذ اعتقلهم النظام وأرسلهم إلى المجهول.
وقال ثالث إن هذا المسلسل ليس وثائقياً، بل هو درامي، والدراما عبارة عن تأليف لأحداث ووقائع تستطيع بمجملها أن توهمك بواقعيتها، أو بإمكانية حدوثها في الواقع..
وفي آخر هذا الحوار الفيسبوكي كتب صاحب البوست الأصلي عبارة: والله إن هذا المسلسل إشكالي، ولا يمكن الحكم عليه بهذه البساطة.. وهو إشكالي بالفعل.
حينما كتبتُ- أنا محسوبكم- عن مسلسل (منبر الموتى) في مطلع شهر رمضان، لم أستطع أن أقف على الثيمة الأساسية التي يقوم عليها بمجمله، وهي تصوير الخوف البالغ لتخوم الهلع الذي يريد النظام السوري أن يفرضه على المواطنين السوريين من أجل أن يعودوا إلى بيت الطاعة، وهو موقن أنهم لن يعودوا إليه في هذه المرة أبداً.
انتبه، صديقي، إلى سلسلة المشاهد التي يمثلها تيسير ادريس (أبو عزام) وزوجته (سمر سامي) منذ البداية، وكيف تبلغ ذروتها حينما يندفع، من شدة خوفه على ولده المعتقل، إلى مكتب رؤوف الذي لم يتورع عن صفعه، وإرسال ولده إلى حيث سيتلقى العذاب بحضوره.
والواقع أن المشهد التالي يكاد يلخص هذه المأساة الإنسانية الرهيبة بطريقة فنية مدهشة، وهي حينما يتحاشى أبو عزام نقل الرعب الذي عاشه إلى زوجته فيقول لها: شغلته بسيطة، حكى معه الضابط كلمتين، وخلص.. كم يوم ويقول له انصرف.
في بضع الحلقات التي شاهدناها مؤخراً يتضح وجود محاولات بذلها بعض أركان النظام لتهدئة الأمور مع الشارع، وتشكيل لجان للحوار، اصطدمت بقناعة شبه عامة موجودة لدى أغلبية ممثلي الجهاز الأمني والحكومي، مفادها أن البلد تتعرض لمؤامرة!.. وأن المتظاهرين متآمرون أوباش يستحقون الدعس!.. ولا يوجد بديل عن الحل الأمني! حتى إن أحد المسؤولين عن أحد المعتقلات (نجاح سفكوني)، بكل بساطة، لم ينفذ مرسوم العفو!!..
أخيراً.. إنني لا أعرض هذه الأفكار من أجل الدفاع عن مسلسل (منبر الموتى) أو من أجل دحض الأفكار التي أوردها الناشط الفيسبوكي المذكور أعلاه.. وإنما أريد أن يتحلى المتتبع بالموضوعية والنزاهة.. فإذا أنا نظرتَ إلى عابد فهد- مثلاً- من خلال تصريحه التافه القائل بأن ثورات (الربيع العربي) كلها تتبع لمُخرج واحد!.. سوف أستنتج أن دور (رؤوف) تافه، بينما هو دور متميز، وعابد فهد قدمه على نحو بارع، بل استثنائي.. والكاتب رسم للشخصية صورة بانورامية، فلم يكتفِ بتصويره سادياً يحب تعذيب المعتقلين، بل أظهر لنا شراهته للملذات، يحشش، ويقيم علاقة مع مومس حشاشة، ولديه حالة ذكورية (ديكية) فائضة.
ما الذي لم يقدمه المسلسل من تجليات الفساد؟ ألم يخيب أبو نبال (باسم ياخور) أمل "جابر" حينما يكتشف هذه الأخير أنه يقود قطيعاً من الشبيحة؟ ألم يظهر فادي صبيح بدور تاجر الحرب الذي يخطط ويعمل من أجل الإثراء على حساب دماء الشعب السوري؟!
نعم.. إنه مسلسل إشكالي.. يستحمل طرح الكثير من الأسئلة.. وربما نعود إليه.
خطيب بدلة - زمان الوصل - زاوية: دراما الثورة السورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية