يذكرني مسلسل "الولادة من الخاصرة"، في جزئه الثالث الذي يحمل اسم "منبر الموتى"- وهو من تأليف سامر رضوان وإخراج سيف الدين السبيعي- بمسلسل "أرشيف الموت" الذي كانت تبثه القناة التلفزيونية الثانية في التلفزيون العربي السوري في ثمانينيات القرن العشرين، وهو إنتاج سوفييتي يصور فظائع الحكومة الألمانية الهتلرية بحق الشعب الألماني في الأربعينيات.
إن النظام الهتلري، في الحقيقة، هو الأب الروحي لمختلف الأنظمة الشمولية، القمعية، التسلطية، الإرهابية في العالم، وعبر العصور، ومن ضمنها، بالطبع، نظام حافظ الأسد المستمر على هذا النهج الإرهابي المعادي للشعب السوري منذ أواخر عام 1970.
المقارنة، إذا أردت الحق، هي في مصلحة "منبر الموتى" لأن الحكومة السوفييتية التي أنتجت ذلك المسلسل لم تكن أقل قمعية ودموية ومعاداة لشعوبها من أدولف هتلر، ولو أن هتلر انتصر، لقدمت وزارة الإعلام الألمانية أعمالاً تلفزيونية رهيبة تدين القمع السوفييتي للمواطنين السوفييت.
ههنا الكاتب، سامر رضوان، الذي اعتقلته سلطاتُ الأسد الوريث بضعة أيام من عرض مسلسله، ثم أطلقت سراحه، لا ينتقد الواقع السوري بقصد الدعاية (البروباغاندا) على نهج أرشيف الموت، وإنما يقدم لنا عملاً درامياً متميزاً، يصور فيه تلك الآليات البالغة التعقيد التي ترتكبها المخابرات السورية في سبيل إذلال الشعب السوري، وقهره، ومعاقبته على ذنوب لم يرتكبها، بل إنهم يعاقبون الناس الذين لم يهجروا البلاد باعتبار أنهم يمثلون الحاضنة الشعبية لأولئك الرجال والنساء الذين خرجوا يطالبون بحقهم من النور والكرامة، فحل بهم الوبال.
لقد لاحظنا، من خلال متابعتنا لعشرات الأعمال التلفزيونية السورية منذ الفورة الإنتاجية الدرامية التي بدأت في أواسط التسعينيات، أن الممثل السوري، على العموم، يؤدي دوره في الأعمال التي يشارك فيها، بطريقة متقنة، ومن دون تألق، وأما حينما يكون النص الذي يقدمه قوياً ومتماسكاً، وملتمعاً- مثل نص "منبر الموتى"- فإنهم يتألقون، ويرتفع مستواهم الفني.. وأنا، مثلاً، أرى كلاً من قصي خولي وباسم ياخور وعابد فهد وعبد الحكيم قطيفان يقدمون، في هذا المسلسل، أدواراً استثنائية، لا تقل عنهم سمر سامي ومنى واصف تيسير ادريس ولينة كرم..
يعود تاريخ التجرؤ على انتقاد حقارة المخابرات السورية إلى لوحة خجولة قدمها الفنان ياسر العظمة، تحكي عن رجل استدعي إلى الفرع (تسعة- تسعة- تسعة).. فكان مصيره شبيها بمصير بطل قصة (موت موظف) التي كتبها تشيخوف..
ثم انتقلت هذه الجرأة إلى مسلسل بقعة ضوء، الذي كان ينتقد المخابرات، على نحو عمومي، وغير محدد، فتمرره الرقابة بوصفها نوعاً من التنفيس، حتى إن بعض لوحاته لم تكن تعرض إلا بموافقة شخصية من وزير الإعلام السوري، ليقال، حينئذ، إن الأمور في البلد، قد (ترحرحت) إلى حد ما بدليل (تمرير) هذه اللوحة التمثيلية أو تلك..
ثم قدم الكاتب فؤاد حميرة مع المخرجة رشا شربتجي مسلسل "غزلان في غابة الذئاب" الذي لم يكن تنفيسياً، وإنما استطاع أن يلقي الضوء على بعض الممارسات الوحشية للمخابرات وأبناء المسؤولين المتنفذين.
ههنا، مع مسلسل "منبر الموتى"، يمكننا أن نتلمس أثر السورية السورية العظيمة في تحرير السوريين من كل القيود الرقابية التي كانت مفروضة عليهم، من قبل العصابة الحاكمة.. ههنا شاهدنا الاعتقال، والمداهمات الوحشية، وشراء الضمائر، والتراتبية المخابراتية الحقيرة التي يضحي بموجبها الكبير بالأصغر، والأصغر بالأصغر منه.
شاهدنا المواطن السوري كيف يهان، وكيف يوضع رجل تجاوز الستين وزوجته (تيسير ادريس وسمر سامي) في موقف المنكسرين، المتذللين أمامَ ضابط شاب، أو حارس مبنى مخابراتي، يقفان هذا الموقف لأن هذا النظام البوليسي المرعب يريد شراً بابنهما.
تجدر الإشارة إلى أن سيف الدين السبيعي يقدم إيقاعاً إخراجياً لا مثيل له في الدقة، والتميز..
أخيراً: حتى الآن.. العمل جميل، وحقيقي، ومشوق.. ونحن دائماً نخشى من المفاجآت.. كتلك التي كان يباغتنا بها دريد لحام في مسرحياته الناقدة.. حيث كان يحفظ خط الرجعة من نظام الاستبداد..
لا أظن هذا سيحصل في دراما ممسوكة جيداً، ومشغولة بذكاء، كدراما منبر الموتى.
لننتظر.
خطيب بدلة - زمان الوصل - زاوية: دراما الثورة السورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية